“التفكير الاستراتيجي /إدارة المستقبل” …(1)
لمحة عامة
لم تعد المعرفة محدودة بحدود الماضي أو الحاضر ،لقد أصبح بإمكان الإنسان أن يستشرف المستقبل ،ويتعرف على ملامحه بنسبة مقبولة ،تؤهله لتحسين الفرص المستقبلية وتجنب المنزلقات ،إلا أنه ما زال يتجنب البحث ،ويهرب من التفكير ،لأن المعرفة مؤلمة ومتعبة .
قد يكون الجهل أكثر راحة من السؤال ،فالسؤال يضعه في مواجهة الواقع والمسؤولية ،بينما يعطيه الهرب شيئا من الراحة المؤقتة والاستقالة من الفعل .
إن العقل البشري حقق انتصارات هامة في مجال سيطرة الإنسان على الطبيعة،والمجتمع ،وعلى حركة التاريخ ،بل بما يمتد إلى المستقبل أيضا ،من خلال مايدور في أحاديث وأفكار الاستراتيجية .
والمفارقة الخطيرة أن الإنسان يضج بالشكوى من آلام الواقع ،وسخونة الصفيح الذي يتقلب عليه ،لكنه لايتحرك لمعرفة مايوقد تحت هذا السطح من نيران الأفكار التي تصنع القرارات وهذه الآخيرة تشكل واقعه المأزوم .
وكذلك يطلق أمنيات جمة وأحلاما مستقبلية لايسعى إلى امتلاك مايمكنه من خلقها في الواقع .
نعم يمكن للإنسان أن يستطلع المستقبل بفرصه وتحدياته ،ويمكنه تغيير شيء في مجرياته ليلائم إرادته وتطلعاته ،إنها أداة التفكير الاستراتيجي العظيمة .
لكن مايثير الدهشة أن الإنسان( أحيانا) يهرب من أشكال التفكير البسيطة الضرورية ،فكيف لايتجنب التفكير الاستراتيجي وهو الذي يفتقر إلى دقة الرؤية ويعتمد الاحتمالات والسيناريوهات المتعددة ،ويحتاج إلى تمرس وخبرة؟
لاتتوفر مادة التفكير الاستراتيجي بشكل كبير في السوق إذ هي مزيج من التفكير والاستراتيجية ،حيث أن للتفكيرالإنساني مستوايات متدرجة،أبسطها التفكير المنطقي المعتاد والمنتشر بين الناس والمتداول على السليقة بغض النظر عما يعتريه من مغالطات فاحشة .
ثم يرتقي باتجاه المستقبلية في شكل التخطيط الاستراتيجي بتحديد الرؤى والأهداف والإجراءات العملية .
إلا أن التفكير الاستراتيجي أفق آخر أكثر رحابة واتساعا وعمقا ،بل أكثر شمولا وفاعلية ،فلايقتصر التفكير الاستراتيجي على الرؤية والهدف والإجراء التي يستطيع أي شخص تلقى دورة في التخطيط الاستراتيجي أو قرأ كتابا أن يضعها .
فما التفكير الاستراتيجي إلا نظر عميق في المستقبل ،وآلة للفحص والفرز والاختيارالمستقبلي ،وتقف آلة التفكير الاستراتيجي على قدمين إحداهما التوقع من خلال تطويل ذراع السيناريوهات المحتملة ومدها في فضاء المستقبل ،ثم التموقع من خلال اختيار الفعل الأكثر منطقية على أساس التوقعات .
ويشمل التفكير الاستراتيجي في عمق قاعدته مفاهيم ثلاثة ارتكازية ،
أولها : التفكير بالنظم ؛أي معرفة الآلية التي تتحقق بها الظواهر،وأسبابها وحركاتها ونتائجها ،أي رؤية القضية المدروسة في نظامها الكامل حال الدراسة .
وثانيها : تبديل الأطر ؛ وتعني تغيير زوايا النظر في حال أنها لم تتمتع بالواقعية أو في حال فشل التجارب المعهودة .
وثالثها :التأمل والاستنتاج ،وهي القدرة على الغوص في التساؤل إلى أعماق القضايا والرجوع إلى منابعها الأولى لتفحص صلاحيتها في ظل الوضع الراهن .
ثم لينطلق التفكير في وضع النوايا الاستراتيجية التي تكون معيارالأعمال المستقبيلة اللاحقة ،وعلى أساسها يتم وضع الخطط الاستراتيجية والأهداف المحددة وآليات العمل .
من خلال ماسبق يتضح أن التفكير الاستراتيجي يعطي مرونة في التفكير ،وحلولا جديدة ،لم تكن لتخطر في البال دون السير في هذا الدرب ،فالحلول الجديدة لايمكن أن تنتج إلا عند التفكير بطريقة أخرى وهذا مايتيحه التفكير الاستراتيجي على الدوام ،ليس في باب السياسة والإدارة فقط وإنما في مختلف جوانب الفاعلية الإنسانية .
يتبع…
حسام خلف .
Discussion about this post