العيش المشترك بين تفرّد الانتماء وتعدّد الخيارات
_____________________________________
من أخطر التحدّيات التي واجهت الإنسان خلال مساره الحضاري؛ عملية التوفيق بين تفرّد الانتماء الذي يختاره منهجا لحياته، وما ينبثق عن ذلك من تبنّ لنظام الحياة ومجموعة العلاقات التي تنسجم مع هذا الانتماء ورؤيته… وبين تعدّد الانتماءات القائمة في المجتمع الواحد والبيئة الواحدة، وما يستدعيه ذلك من اختلافات على صعيد إدارة الحياة وأشكالها، كلّ حسب رؤيته وانتمائه، سواء أكان الانتماء دينيّا أم فلسفيّا.
لقد جسّدت هذه الحقيقة ،عبر التاريخ، معضلة على الصعيد العملي، فضلا عن الاختلافات النظريّة، وكانت سببا في المزيد من الصراعات، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى إراقة الدماء، والدمار، وخلقت العداء والأحقاد بين البشر!!
ولو أردنا تحليل المشكلة؛ لوجدنا أنها تنطلق من وهم مستحكم في الأذهان؛ إذ يدرك الإنسان أنّ الحقيقة واحدة لا تتعدّد، ولهذا فإنه عندما يتبنّى هذه الرؤية أو تلك، يتبنّاها وهو يعتقد أنّها تمثّل الحقيقة، ما يلقي بظلاله على ثقافة الانفتاح والتعدّد عند الأغلبية الغالبة من الناس، فلا تجد لها في دائرة وعيهم وشعورهم موقعا ذا شأن، فتضيق ،إثر ذلك، مساحات التأمّل العقلي للوصول إلى مخارج حواريّة تحترم إرادة الإنسان وخياراته. الأمر الذي يساهم في نشوء عقلية الإقصاء والاختزال، ويشكّل أرضا خصبة لعوامل نموّ نبتة التعصّب الخبيثة.
لقد شكّلت هذه المغالطة اتجاها راسخا مع الأيام، غيّبت معه ميزة أساسية ينبغي لأيّ رؤية أو مرجعية ،تلقي على عاتقها النهوض بالمشروع الحضاري، التمتّع بها؛ وأقصد بذلك انفتاح أسسها ومبادئها على مقوّمات الشخصية الإنسانية وجوهرها؛ تلك الشخصية التي ارتبط مصيرها الحضاري والتكاملي بقناعات الإنسان وخياراته. فما لم يمض الإنسان في منهج أو مشروع ما بمحض إرادته وحريّته، لن يجد نفعا هذا المشروع وإن كان صحيحا متماسكا في سائر جوانبه. وبعبارة أخرى: لا يكفي في أيّ منظومة أن تدعو إلى الحق، وتنشد الحقيقة، بل لابدّ وأن تمتلك المساحة الكافية التي تمنح الإنسان حق الاختيار الحرّ؛ ذلك أنّ فلسفة التكامل إنما تقوم على حركة الإنسان الإراديّة. وهذا ما يعتبر مكمّلا حتميّا لتماسك أيّ رؤية ونجاحها. وعليه، ليس لفلسفة، أو دين، أو معتقد… جدوى أونفع دون الأخذ بعين الاعتبار ما تفوّق به الإنسان(العقل والإرادة) على باقي المخلوقات، وجعله ركنا أساسيّا في منظومته ومنهجه؟!
لقد سجّل لنا التاريخ أنّ المشروع الذي لايعير الإرادة الإنسانية أهمّية إلى جانب العقل والإدراك، ولا ينطلق من ضرورتها وأثرها في المسير التكاملي لهذا المخلوق العظيم؛ لن يحظى بأيّة قيمة أو دور، حتى ولو سنحت له معادلات الصراع وتناقضاتها أن يصبح منهجا للحياة بعيدا عن قناعات الناس، سواء أكانت أفكاره واقعية وغاياته تنشد العدالة والقيم الإنسانية،أم لا. ولعلّ في نموذج (المستبدّ العادل) الذي اشتهر تطبيقه لدى العديد من الشعوب عبر التاريخ، خير مثال على ما نقول؛ إذ برغم ماقدّمه من يمثّلون هذا النموذج لمجتمعاتهم؛ بقيت العديد من الحاجات والخصائص الإنسانية الضروريّة مهملة ومهمّشة، ما غيّب الكثير من حقوق الإنسان الأساسيّة، وأعاق مسيرته التكاملية، لذلك اصطبغت النظرة إلى مثل هؤلاء القادة بالريبة والاستياء، بما ضيّقوا عليه من فضاءات الإبداع وحريّة التعبير، وبما ضنّوا به من فرص المبادرة والتشاركية للنهوض بواقع المجتمعات ورقيّها.
على ضوء ما سبق، يمكن القول إنّ الرؤية الحضارية المثلى وفلسفتها، تقوم على ركنين أساسيّين:
▪ الأول ويتجلى في واقعيتها وأصالة مبادئها، ومناهجها، وغاياتها…
علما بأنّه ليس المقصود بالواقعية أنّ يكون كل ماتنهض به هذه الرؤية يطابق الواقع والحقيقة ضرورة، وإنما المراد هو انفتاح أسسها ومناهجها على الواقع كما هو، واعتبار الحقيقة غاية أسمى على صعيد الفكر والعمل.
▪الثاني ويتجلّى في مراعاة إرادة الإنسان واحترام خياراته، انطلاقا من كونه مخلوقا مكرّما بما يمتلكه من طاقات على هذا الصعيد…
والجدير بالذكر أنّ هناك ارتباطا بين هذين الركنين؛ إذ يستند الثاني على الأول، لأن الانفتاح على أجواء الحرية والاختيار، إنما ينطلق ،أساسا، من الثقة التي تستمدّ من الواقعيّة. فعندما يكون مفهومنا الفلسفيّ للعالم والحياة قائما على الصدق وتوخّي الموضوعية، والاستناد إلى الثوابت الإنسانية؛ لانخشى على أفكارنا وسلوكنا في معترك الحوار الحضاري ومخاضه، مادمنا نؤمن بأنّ مثل هذه الأجواء، لن تفضي ،في نهاية المطاف، إلا إلى الحقيقة التي ننشدها أصلا.
إنّ الرؤية التي تجمع في خصائصها (الواقعيّة) و(الإنسانية)، تمتلك في بنيتها ضرورة الدعوة إلى الحوار والتفاعلية. ذلك أن الإذعان للواقع واعتباره هدفا وغاية، من جهة. والانفتاح على ة الإنسانية وخياراتها واحترامها، من جهة أخرى؛ يجعل البيئة التكاملية الناهضة -من وجهة نظر هذه الرؤية- تلك البيئة التي تتّخذ من الحرية المسؤولة والانفتاح على الآخر، إطارا ضروريّا لمسارها وحركتها الفكرية والعملية…
كما يمنح الاعتماد على هاتين الخصيصتين (الواقعية والإنسانية)، القدرة على النقد والمراجعة دائما، فتبقى احتمالات الخطأ وعقلية التخطئة البنّاءة للذات منهجا في الفكر والعمل، فضلا عن احترام الرأي الآخر واحتمال صحته عند الاختلاف… ، وبهذا، لا يجد المؤمنون بمثل هذه الرؤية غضاضة في قبول المنافسة الحضارية الشريفة، وخلق بيئة تفاعلية يستلهمون من خلالها التجارب والأفكار، دون أن تعصف بهم رياح التبعيّة والانبهار؛ لأن من يمتلك عقيدة تقدّس (كلمة السواء)، وثوابت الإنسانية، والواقع؛ لايهتزّ أو ينهار، لمجرّد التعدّد والاختلاف. كما أنه مستعدّ لحجب مايعتقد به عن ساحة العلاقات الاجتماعية، مؤمنا بأولويّة الواقع الملح، ومفسحا في المجال لمعترك النضج الحضاري ليقول كلمته فيما يعتقد ولو بعد حين.
لقد آن لنا أن نعمل على اجتراح بيئتنا التفاعلية، لنفتح عقولنا وقلوبنا على ما يجمعنا، وننعم بالجذوة التي منها ننطلق إلى مزيد من المشتركات… لا لأنّ الحقيقة متعدّدة كما توهّم البعض، بل لأن الحقيقة الواحدة لا دور لها ولا قيمة، بمعزل عن اختيار الإنسان وإرادته.
جمال صالح جزان#
Discussion about this post