الأصالة والتحديث
بين الواقعية، وعقلية الاستقطاب
منذ أن دنّست أقدام نابليون وجنوده طهر أراضينا، سجّل سؤال النهضة حضوره الفاعل في مساحة وعينا واهتمامنا، على غرار الصدمة الحضارية التي منينا بها. حيث كنا نغفو على تفوّق وهميّ أورثنا إيّاه فهمنا الخطأ لقوله جلّ من قائل {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}، لكنّ قوة الغرب ممثّلا بما رأيناه مع نابليون في حملته، أيقظنا من حلم جميل، كان قد أعمى أبصارنا عن واقعنا الرّديء…
لكنّنا برغم حضور هذا السؤال واستشعارنا ضرورة التغيير؛ لم يحظ وعي الذات ،والعمل على تأصيل هويّتنا الحضارية، بالاهتمام والجهد الكافيين، وبصورة تجنّبنا الغرق في مستنقع التقليد والتبعيّة، بل ،للأسف، اتخذت الأمور مسارا غلب عليه الانفعال والانجذاب العاطفي إلى النهوض، عوضا عن تفعيل خطوات التغيير الفعلي وتجسيدها عمليّا، والاستناد إلى رؤية نظرية متكاملة ومتوازنة. بل اعترى كلّا من عمليتيّ؛ التأصيل والتحديث ،اللّتين عمل عليهما مفكّرونا ومثقّفونا، القلق والاضطراب والتنظير الذي لم يلامس جذور المشاكل والحلول، في الوقت الذي كان حريّا بهما أن يمضيا على نهج التكامل والانسجام، بحيث تتحقّق تفاعلية موضوعية لاستلهام فكر الآخر والاستفادة من خبرته وتجاربه، بما يتناغم مع خصوصيّاتنا الفكرية والاجتماعية؛ وضمانا للحفاظ على استقلال الهوية وأصالتها، في الوقت نفسه.
ولعلّ غياب حيوّية هذه التفاعلية، كان وراء التردّي الحضاري الذي نعيشه. ذلك التردّي الذي تجلّى ،ويتجلّى، في واقع التجاذب والاستقطاب المهيمن على العقل في منطقتنا العربية والإسلامية… فبالرغم من خياراتنا المتنوّعة للمدارس والأفكار والمشاريع "النهضويّة" التي اعتمدناها وعوّلنا عليها لإحداث وثبتنا الحضارية، سواء أكانت ذات منشأ خارجي، أو داخلي؛ لم ننفتح ،في خياراتنا هذه، على حالة من التلاقح الفكري الموضوعي الحيادي، بعيدا عن الانغلاق الأيديولوجي والتجاذب المتشنّج المقيت، بحيث نضمن الوصول إلى واقعية التشخيص والعلاج معا، لخلق حاضنة إنسانية واجتماعية، تتسع للآراء والتوجهات على اختلافها، لتساهم جميعا في الوصول إلى المطلوب.
والظاهر أن ذهنيّتنا التي تشكّلت تاريخيّا، بفعل عوامل وحيثيّات متعدّدة، والتي تقوّمت بالعصبيّة وتحكيم الانفعال، على حساب العقلانية والتبصّر الحكيم؛ هي نفسها التي أشرفت على خياراتنا تلك، فاقتصر التغيير على العناوين دون المضامين، وما كان منا إلا انتقاء الأفكار والمفاهيم، التي تصلح ألبسة لعقليّتنا المنغلقة التي بقيت على حالها، فلم نجن من تطور العصر إلا أزياءه!
وبهذا أسلمنا أنفسنا للعقلية نفسها، التي عطّلت سابقا المشروع النهضويّ الحضاري للرسالة الإلهية الخاتمة؛ بأن جيّرته، وأطّرته عشائريا، وفئويا، وعرقيّا… وربما مناطقيّا، وأبعدته عن الفضاء الإنساني المفعم بالعطاء، والرحمة الإلهية.
وأما بالنسبة للخيارات الداخلية التي توخّت الأصالة، فالأمر أوضح؛ فمن يمتلئ بالحرص على الذات، والمحافظة عليها، يكاد يكون الأقرب والألصق إلى الانغلاق والإقصاء، بوجود تلك العقلية التي أتينا على ذكرها. وإن كنّا نرى في الحرص على الذات واستقلال الهوية، غاية شريفة سامية، لابدّ من العمل على تحقيقها.
لقد أفرزت العقلية المشوّهة لعملية التغيير، ثنائية قاتلة ،بل ثنائيات، أقصت الواقع الموضوعي، الذي نستطيع من خلاله بناء حاضرنا ومستقبلنا، على أسس إنسانية حضارية، تضمن لنا هويّتنا وخصوصياتنا ،من جهة، وتفتح أبواب التطور ومواكبة متغيّراته ،من جهة أخرى. وهي إذ أفقدتنا الغايات المنشودة للتغيير البناء؛ أسلمتنا لنزق (الأنا والآخر)، الذي مثّل بدوره أرضا خصبة للنزاعات والصراعات؛ سهّلت على عدوّنا الاختراق والتوظيف المدمّر لواقعنا وطموحاتنا وآمالنا في بناء مشروعنا الحضاريّ المأمول.
تسمح لي هذه المقاربة أن أقول:
إن المشهد الثقافي الفكري الذي يتجلى في واقعنا اليوم، والذي تبلور منذ انطلاقة ما سمّي ب "عصر النهضة العربية"، ربما يعاني خللا بنيويّا في مقوّماته الفكرية، ومبادئه الفلسفية والمعرفية. فقد اعتراه الكثير من سخونة ردّة الفعل، فقد على غرارها رزانة البحث والدراسة المنهجية، وما ينبغي أن تقوم عليه من دقّة وضبط، تضمن واقعيّة النتائج وصدقها.
لم نتمكّن ،بفعل هذا الخلل، من عزل الخصوصيّات الزمانية والمكانية للمشاريع التي اخترنا الاعتماد عليها، عن القيمة الإنسانية والواقعية المشتركة التي تحملها، وغلب على تناولنا لهذه المشاريع الانبهار، وغياب الرؤية التأصيلية، حيث ينبغي الإبقاء على المشترك، وطرح الخاصّ، فلم نراع مايمتاز به الحقل المعرفي الذي نشأ فيه المشروع المستورد، عن حاجاتنا الحضارية للمرحلة التي نعيشها.
كما لم نتمكّن من تنقية تراثنا؛ ذلك التراث الذي يحمل في مكوّناته مفردات هويّتنا الحضارية وثوابتها الإنسانية، لكنّه ،في الوقت نفسه، يعجّ بالسقطات والاخفاقات وما يندى له الجبين. فقد طغى علينا التشدّد والانغلاق، بل زاد هذا التشدّد جرعات، بفعل الاخفاقات التي سجّلها متبنّو فكر الحداثة وتوج
ّهاتها، ما حدا بالكثير من الحركات والاتجاهات الدينية أن تكون أكثر إصرارا على الماضويّة، وأشد صلابة و انغلاقا .
ّهاتها، ما حدا بالكثير من الحركات والاتجاهات الدينية أن تكون أكثر إصرارا على الماضويّة، وأشد صلابة و انغلاقا .
لا يمكننا ،بأيّ حال من الأحوال، القطيعة مع الماضي، وفصله عن الحاضر والمستقبل، لأن الوعي الحضاري الأصيل رهن تبصّر الثوابت والمتغيّرات.
جمال صالح جزان
Discussion about this post