كتب رياض الفرطوسي
في الأزمنة الماضية، كانت السياسة ميداناً لصراع الأفراد. كان الطاغية واحداً، بوجه واضح، يختصر الشر في شخصه وقبضته الحديدية. كانت خطواته الثقيلة تهز الأرض وحدها، وكان سقوطه، مهما بدا بعيداً، ممكناً بصوت قصيدة، أو بندقية حرة، أو حشود تجتاح الشوارع صارخة باسمه ليسقط.
أما اليوم، فقد خرج الوحش من جلده القديم، واتسعت أظافره حتى صارت شبكات معقدة. لم يعد الطغيان اسماً لرجل يجلس على عرش، بل غدا كياناً متعدد الرؤوس، يقتات على دعم واسع: أقاليم تتذرع بالقومية، كيانات تلوّح برايات الدين، أو قوى إقليمية ودولية لها مصالحها التي لا تشبع. صار الوحش يعيش داخل تحالفات سياسية وأمنية وإعلامية واقتصادية، تحرسه وتضخ له أسباب البقاء، فلا يعود هدفاً سهلًا لهتاف، ولا تهزه مظاهرة، ولا يخترقه رصاص مبعثر.
هذا التوحش الجديد أذكى، وأعقد، وأكثر شراسة من ذي قبل. إذ صار الوحش يجيد لبس أقنعة الشرعية، ويتكلم لغة القانون حين يريد، ويغزل خطاب الوطنية على مقاسه. تراه يجلس إلى موائد المفاوضات بوجه دبلوماسي، بينما في الظلال، ثمة مخالب تنهش الخصوم، وتسحق من يقف في طريقه.
والمصيبة أن الشعوب لا تزال تحلم بإسقاط الوحش بذات الأسلحة القديمة: القصائد، أو الغضب المفاجئ، أو المظاهرات التي يبددها الرصاص أو التخوين. لم تدرك بعد أن الوحش صار بنية متشعبة، متصلة بعروق المال والإعلام والتحالفات الخارجية. لم يعد الوحش فرداً يمكن عزله أو إقصاؤه، بل صار منظومة لا تسقط إلا إذا تفككت خيوطها واحدة تلو أخرى.
والأخطر أن الوعي العام يعيش حالة اضطراب. الناس تائهة بين الخوف من البطش، أو اليأس من التغيير، أو الاندفاع خلف هتافات عصبية تغذي ذات الوحش الذي يسحقهم. في غياب وعي صلب، تغدو النتيجة مدمرة، لأن التوحش حين يجد أرضاً رخوة، لا يعرف حدوداً لشراسته.
اليوم، لم يعد الصراع سياسياً محضاً. صار صراعاً على الهوية، على الدين، على القومية، على الموارد. الوحش يتلون بألف لون ليمتص الغضب، ويحوّل الأزمات إلى فرصة ليعزز سلطته. يرفع شعارات التحرير والمقاومة بينما يكدس ثرواته بعيداً عن العيون. يطلق شعارات العدالة، وهو يعتقل كل فكرة حرة.
السياسة حين تتوحش، لا تبقي مكاناً للرحمة. تصبح الدماء مجرد أرقام في نشرات الأخبار، ويغدو الخراب مجرد بند في ميزانية السلطة. تصير الكرامة تهمة، والاعتراض خيانة، والسكوت نجاة.
ومع ذلك، يبقى في قلب كل شعب شرارة لم تنطفئ. شرارة تعرف أن الوحش مهما امتلك من أسلحة، يظل أضعف أمام حقيقة واحدة: لا يمكنه البقاء إلى الأبد إذا تفتحت عيون الناس، وانكشفت شبكاته، وسقطت أقنعته. فالتوحش، مهما بدا ضخماً، لا يعيش إلا في ظلمة الجهل والصمت.
ولعل أخطر ما في وحش السياسة اليوم أنه لم يعد وحشاً فردياً يمكن أن يذبحه سيف الحقيقة، بل غدا وحشاً يتغذى من خوف الناس، ومن تشرذمهم، ومن ولائهم الأعمى لرايات أكبر من أوطانهم. وهو وحش، إذا لم ينهض الوعي الجمعي لكشفه، سيظل يلتهم ما تبقى من حريات وأحلام.
في النهاية، الوحش ليس قدراً أبدياً. لكنه امتحان طويل لشعوب تقرر في لحظة مصيرية أن تصرخ كفى… وأن تستعيد إنسانيتها من بين أنيابه.
Discussion about this post