لا.. لم يترجل الفارس المعلم
بقلم: د. حسن أحمد حسن
وَدَّعَنا على ظَهْرِ حصانِه.. آلى أنْ يترجلَ أو يستريح، وتلك هي شِيَمُ الفرسان الذين عشقوا سروجَ المجد، فكانتْ مبيتَهم… وراقتْ لهم ميادينُ العطاء، فَمَاْجَتْ بيادر حصادهم بغلال وفيرة من زرعهم المخضوضر، وأنبتت كل حبة قمح مباركة سبع سنابل حبلى بالخير واليمن والبركة، وبقيتْ مشكاةُ الوطنِ متوهجةً بمصابيحَ دريةٍ تُوْقَدُ من زيتونةٍ مباركة يضيء زيتها، ولو لم تمسسه نار، وما أن يخفت ضوء مصباح حتى يتوهج مصباح جديد يكمل رسالة النور الأزلي المستمر للأبد، وهو يروي قصة أبناء الشمس الذين وزعوا للكون الأبجدية الأولى، وهام يتابعون رسالتهم الحضارية غير هيابين ولا وجلين، مؤكدين للعالم أجمع أنه من المحال مصادرة إرادة الرجال يقودهم أسد رئبال…
هكذا كانت مسيرة الراحل الكبير السيد وليد المعلم وزير الخارجية الذي غادرنا بصمت… بقي متنكباً سلاحه حتى النفس الأخير.. آثر أن يترك في بهو قاعة مؤتمر عودة اللاجئين السوريين بقايا ابتسامة تلون الجدران، وتزرع الأمل … تهمس في آذان الوطن أن مسار النصر قد اكتملت معالمه، والقطار استوى على سكته محمياً بإرادة عشاق الوطن الغيارى الملتفين حول قائد الوطن وهو يجدل لسورية الإباء ضفيرة الانتصار والعزة والإباء والكبرياء..
نعم لقد رحل أبو طارق بهدوء، وكأنه على علم باقتراب موعد السفر، فاستحم بعبق الانتماء، وامتطى صهوة الألق على أجنحة النور… أبى أن يخبو بريقه، أو يضمحل لهب توقده الوطني المتماوج مع قوس قزح ينشر البشرى برحيل الظلام وانبثاق الفجر رغم دياجير الظلام…
بورك عطاؤك الوطني الذي لم ينضب، وطوبى لك محبة الجميع، واحترام الجميع يا فارس المنابر، فبذكرك يعذب الكلام.. وبروحك يليق السلام..وعلى فراقك ناح الحمام واليمام في مآذن الشام، مستمطراً شآبيب الرحمة لروحك السمحة النقية.. الطاهرة الزكية، لكن.. لا الحديث عنك يرقى إلى سمو مقامك، ولا استذكار مواقفك النبيلة والسامية تقلل وجع الغصَّات التي خلَّفها فراقك أيها النبيل الوفي، والوطني الأبي الأشهر من أن يعرف بمنصب أو وزارة، فكيف لكلام أن يرقى إلى سمو عليائه، وهو الذي كان على امتداد حياته لسان الحق الناطق والبلبل الغريد باسم الوطن؟ وكيف لبيان أو بديع أن يفيه حقه، وهو الذي أمضى عمره في الخنادق الدفاعية الأولى للوطن الأشم سورية الأسد، يرفع علمها، وويدافع عن حقوقها ومواقفها في المحافل الدولية بكل رجولة وشمم ويقين بالنصر الحتمي والوصول إلى شاطئ الأمان والأمان مهما اشتدت الأعاصير وتقاطرت الأنواء وتكالب الأعداء على عمود النور، متيقناً أن الله ورسوله قد تكفلا بحمايتها وبقائها ملاذ الأمن عندما يعز الأمان، ومنبع النور عندما يدلهم الظلام، وملجأ الملهوفين عندما ينتشر الخوف، ويعم الذعر والهلع، فكان بحق البلبل الصدَّاح بالأنغام السورية النقية يعزفها أساطين العصر رجال الجيش العربي السوري، وقد التفوا مع جميع الشرفاء من أبناء الوطن حول قيادة ربان السفينة وأسد العرين الذي ما هان ولا لان ولا استكان، ولا ارتجف له جنان أو بنان، بل راح يشق عباب البحار، ويواجه العواصف والأعاصير واثقاً بربه وبشعبه وبجيشه وبرجال آمنوا بالله والوطن، وكان الراحل الوفي المؤتمن الناطق باسمهم جميعاً الصادق في مواقفه المشرفة، والمصمم على إنجاز المهمة وإيصال الرسالة بأمانة وإقدام، وبقيت كذلك حتى أسلم الروح لباريها..فسلام عليك يا أسد الدبلوماسية السورية في رحليك… وسلام عليك عبر مسيرتك المشرفة… وسلام يرافقك أيها الوفي النبيل إلى يوم يبعثون.
يحق لنا أن نبكي على فراقك أيها الفارس المقدام، لكننا لن نبكيك يا سيدي الوزير… لن نبكي قط لأننا في سورية الأسد استبدلنا النواح بالزغاريد، ودموع القهر بأعاصير الإرادة…لا لن نبكيك لأنك باقٍ بِقِيَمِكَ وَمُثُلِكَ وَشِيَمِكَ الوطنية السامية، ونعتز بمسيرتك الزاخرة بالمواقف المشرّفة، فلطالما قهرتَ وأبكيتَ أعداءَ الوطن والأمة… كَمْ وَكَمْ أقضَّ هدوؤك مضاجعَ فراعنة العصر! وَكَمْ أدمتْ مواقفُكَ المشرفة في المنابر الدولية قلوبَ المتغطرسين المعربدين المتجبرين! وكم كان حضورك يدبُّ الرعب المسبق في قلوب أعداء الوطن، وينشر الأمل والراحة والطمأنينة في قلوب جميع السوريين وأنصار الحق والعدل في العالم أجمع! .
ستبقى سبابتُكَ المرفوعةُ في وجه وزير الخارجية الأمريكي لوحةَ نابضةَ بكلّ روافع الشموخ والشمم والعزة الوطنية في زمنٍ تكاثرتْ فيه الزواحف، وتقاطرتْ فيه جموع أشباه الرجال متسابقين لأداء فريضة الحج المشؤوم إلى البيت الأسود في واشنطن، وملحقه الآسن في تل أبيب…لا لن نبكيك أيها الراحل الكبير، بل نتمثلُ قِيَمَكَ، وأنت رجل الدولة الذي جسَّدَ الوفاء بأبهى حلله، ونقاء الانتماء بأروع تجلياته، فكنتَ بحق رئيسَ أركان الجيش الدبلوماسي الذي أبدع في بلائه الحسن في معركة الدفاع عن الهوية ومقومات السيادة الوطنية والكرامة السورية العصية على المساومة أو التهميش…وحرصتَ على تأهيل أكثر من نسق ليكونوا قادرين على حمل الراية وإتمام مسيرة الصمود المشرف خلف القائد الأسد المفدى حماه الله ورعاه، ونصره على كل من عاداه…
نم في فردوس عليائك قرير العين، مطمئن الفؤاد أيها الوطني الشريف، وصاحب القلب النظيف، فمحراب وطنيتك النقية سيبقى عامراً بجباه ما انحنت إلا لله تعالى، وسورة الأسد ستبقى عرين الأسود…. تغمدك الله بواسع رحمته، وأسكنك فسيح جنانه، وطيب الله ثراك الطاهر.
دمشق في 17/11/2029م.
Discussion about this post