لدى الاطّلاع على سيرة عليّ (ع)، يتجلى لنا منهج رساليّ أصيل، ظلمته عوامل تاريخيّة وثقافيّة ومذهبيّة، مضى على إيقاعها مسار أمتنا منذ زمن بعيد، ولازال.
ذلك المنهج الذي بدأت تساهم في اكتشاف مكوّناته ،وجلاء عناصره، التطورات الفكريّة والمعرفية والعلميّة المعاصرة.
أحاول ،من خلال مقالي هذا، تأكيد هذه الحقيقة من خلال استنطاق موقف عمليّ لعليّ بن أبي طالب(ع) جسّد من خلاله المبدأ السياسيّ المعروف ( الفصل بين السلطات).
لقد أثبتت التجربة الإنسانية؛ عملا ؛وفكرا، أنّ الحديث عن مجتمع متماسك ونظام سياسيّ إداريّ رصين بمعزل عن تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، ليس إلا مفارقة لاجدوى منها، لما لهذا المبدأ من أثر تجلّي في القيم التي قامت لأجلها النّظم في توجيه الحركة المسلكية للحياة البشريّة، والنأي بها عن مخاطر التحيّز الفردي والفئويّ الانفعالي الفوضويّ، وسدّ أبواب تغوّل نشوة الهيمنة، ولجم نزق جرعات القوّة الزائدة، التي قد يظنّ القائمون على السلطة التنفيذيّة بأنّها حقّ مشروع لهم!!
وإذ نسلّط الضوء على هذا الموضوع، لابدّ وأن نشيد بالأسس النظريّة للفكر السياسيّ الحديث، وأثره الإيجابيّ في بلورة هذا المبدأ ،وغيره من القواعد، في سبيل تشكيل النظرية السياسيّة المتكاملة. كما نشيد بجهود المفكّرين الذين نهل من تجربتهم هذا الجهد. وبالخصوص الفيلسوف الانكليزي (جون لوك 1634- 1684) وعالم الاجتماع الفرنسي(مونتسكيو 1689- 1755)، ولاسيما ما قاما به على صعيد التأسيس النظريّ لمبدأ الفصل بين السلطات.
ورغم أنّنا لانريد غبن الناس أشياءهم وقيمة إنجازاتهم، وليس من حقّنا ذلك. رغم ذلك، لاينبغي أن نغفل عن تراثنا وما يحتويه من رموز ومآثر وأصول وقيم… ربّما شكّلت سبقا تاريخيّا ومعرفيّا حضاريّا على صعيد الأسس والمبادئ والمرتكزات، التي فقدنا القدرة على استجلائها وتمثّلها ،للأسف، في خضمّ المنزلق التاريخيّ الذي سقطنا فيه…
من هنا، ومع تقديرنا لمن نظّر للفصل بين السلطات، لايسعنا إلا الوقوف أمام تجسيد، لعلّه الأرقى والأسبق زمانا لهذا المبدأ، لابدّ وأن نتمعّن فيه لنعي عمق التجربة الحضاريّة التي عاشها بعض أسلافنا، ولنربأ بأنفسنا عن الوقوع في دوّامة “فوبيا” الانبهار بالآخر وجلد الذات، راجين تجديد الأمل وامتلاك الطاقة الكافية لإزالة أدران ما خلّفته سنين الانحدار والجهل…
يذكر لنا التاريخ أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) جلس أمام القاضي (شريح) إلى جانب يهوديّ دونما أدنى تمييز أو فوقيّة أو نفور، وبكامل الرضا والقبول؛ على غرار محاكمة جرت ملابساتها حول درع ادّعى اليهودي أنه يعود إلى ملكيّته، وهو في حقيقة الأمر ملك لعليّ(ع).
وللحدث ،على صغر مشهديّته الحسّية، سياق اكتنفته الكثير من الحيثيّات والملابسات والقرائن، فأغنته بالدلالات والعبر، وجعلت منه موضوعا خصبا للتأمّل والتحليل واستنباط النتائج في مسألة لطالما كان لها الدور الرياديّ في تحديد مسار الحركة الحضاريّة؛ هبوطا أو صعودا. أقصد بالطبع الجانب التنظيميّ والإداري، وما يفرزه من توزيع للمهام والسلطات، والحقوق والواجبات، وما لهذا الأمر من أثر بالغ في تكامل الإنسان ورقيّه وإشادة حياته الكريمة؛ لدرجة أنّ رسول الله (ص) قال مشيرا إلى هذه الأهمّية: (( إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)).
لو أردنا رصد الحيثيّات ذات الدلالة في موقف عليّ (ع) هذا، لوجدنا أهمّها الآتي:
•كان عليّ آنذاك يشغل منصب خليفة المسلمين؛ أي رأس هرم السلطة التنفيذية حسب أدبيّات الفكر السياسي الحديث. حتى أنّه لم يقبل (عليه السلام)، وهو الخليفة ومالك القوة والنفوذ، أن يكنّيه القاضي (بأبي الحسن) إبان المحاكمة، وأصرّ أن يخاطبه باسمه مجرّدا من أيّ لقب أو كنية (عليّ)، حرصا على نزاهة القضاء وحياديّته، للوصول إلى الحكم العادل الذي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.
• لم تكن استجابة عليّ بالشكل الذي مرّ ذكره، إلا امتثالا للمبادئ والقيم التي يؤمن بها، وتجسيدا لمنهج استاذه ومعلّمه محمد(ص) الرساليّ، إذ بالنظر إلى شخصية عليّ وسيرته، ينتفي أيّ دافع للتظاهر أو التسويق الإعلاميّ كما هو معروف اليوم، لئلّا ترتبط خطوته هذه بالاستقطاب السياسيّ الذي يسخّر المبادئ وسائل، لاغايات وأهداف سامية!
•لو تأمّلنا السياق التاريخيّ والاجتماعيّ في ذلك الزمن، لوجدناه خاضعا بالأساس لثقافة سياسيّة تقوم على القوة والشدّة، وفق طبيعة النظام العشائري السائد في جزيرة العرب. اللهمّ إلا في حدود ما كان قد أرساه الإسلام وقيمه آنذاك، لكنّه لم يكن ،حينئذ، قد تجذّر بدرجة تجعل من الصورة المخالفة لموقف عليّ أمرا مستهجنا أو مخالفا للقيم في نظر المحيط.
إنّ أكبر الدلالات التي نتبصّرها ،من خلال ماتقدّم، أن توجّها مبتكرا على مستوى إدارة الحياة ،وتوجيهها الوجهة الإنسانيّة الصحيحة، يراد تفعيله، ليمثّل الإطار والضمانة النوعيّة لعمليّة التغيير التي يضطلع بها المنهج الجديد. علما بأنّه يراعي ،وبإصرار، الجانب السلطويّ ومسألة الحكم والنظام السياسيّ والأسس التي يقوم عليها، منطلقا من ضرورة بناء الدولة وفق المعايير الواقعيّة والإنسانيّة المثلى… إلا أنّ العقليّة المسيطرة لم تستطع تلقّفه ووعيه واستيعاب مفاعيل الرؤية التغييريّة ومبادئها كما ينبغي. الأمر الذي ضلّل بوصلة السياسة والحكم فيما بعد، وأغرق التطبيق الإسلامي في هذا الشأن ،وغيره من الشؤون، في ظلمات طريقة “كهنوتية” تتذرّع بالتشريع الإلهيّ، ولاتعيش آفاقه ومضامينه الرساليّة. إذ لايمكن الجمع بين سعي تلميذ رسول الله (ص) وإصراره على ترسيخ المبادئ التي ينطلق منها الموقف المشار إليه؛ وبين الصورة التي تمظهرت من خلالها نظرية الحكم والإدارة التي طبّقها المسلمون تاريخيّا.
وليت حركة الانحراف اقتصرت على الجانب التطبيقي العمليّ فحسب، بل اجترحت لنفسها بنية نظريّة “استدلاليّة تأصيليّة” تنسب التجربة المطبّقة على أرض الواقع إلى أسس الدين الإسلاميّ الحنيف ومبادئه!! لدرجة ظنّ الكثيرون ،ورسخ في الأذهان إلى حدّ كبير، أنّ المنظومة الحاكمة التي سادت عبر التاريخ تعبّر حقيقة عن رؤية الإسلام السياسيّة ورسالته. وكأنّ (الممالك) التي تتالت على الأمّة، من زمن معاوية حتى أفول السلطنة العثمانية، هي التجسيد الإسلامي للإدارة والتنظيم والقيادة؟!!
لقد أرسى عليّ سلام الله عليه -ليس في موقفه هذا فحسب بل في حركة حياته الفكريّة والمسلكيّة- منهجا رساليّا عقلانيّا، ودرسا حضاريّا إنسانيّا على كافّة الصعد؛ السياسيّة منها والاجتماعية والاقتصاديّة والتربويّة… لايمكن نسبته إلى فهم المسلمين المضطّرب، أوإلى التيّار النفعيّ المغرض، أوالمجال المذهبيّ الضيّق… منهج، جسّده في عمليّة الحفاظ على قيم التشريع ومبادئه المقدّسة، ونزاهة القانون والقضاء وحياديّته، وتأكيدا على مسؤولية الحاكم في سلطته وواجباته الإدارية والتنظيمية والتربويّة، وضرورة كونه خادما عاملا على تطبيق التشريع والقانون، انطلاقا من الموقف العقديّ الإيمانيّ الراسخ، وذلك لتحقيق الحاضنة الاجتماعية المسلكيّة لقيم الإسلام الفطريّة، التي تتفعّل فيها ،وعلى أسسها، الإرادة الإنسانيّة البنّاءة وفق المنهج الإلهيّ، ضمن علاقة يصبح فيها الإلهيّ موضوعيّا، والموضوعيّ إلهيّا.
لقد رسم لنا السمت لكي نميّز، وفتح لنا باب الاستلهام الحضاري من قيم الإسلام ورؤيته الفطريّة الخالدة، مراهنا على صحوة الوجدان ويقظة العقل ،ولو بعد حين، غاضّا الطرف عن جبروت القوة، وخداع النفعيّة، غير عابئ بمن ضلّوا عن حقيقة الإنسان.
جمال صالح جزان
Discussion about this post