بقلم ناجي أمهز
وكأني في كربلاء أتخيل هذا المشهد:
في قيظ الحر، والرطوبة الشديدة، وحضور العطش الذي جفف حتى دموع العين، جلست السيدة زينب عليها السلام تحت ظل خيمة يصفر بها صوت الليل المكفهر بعتمته، والأنين يضج بصمت المكان، فالفراق صعب وان كانت الرحلة إلى الخلود الدائم في ملكوت الله، بينما من بقي مع الحسين يتهيئون للنزال الأخير والفوز الكبير، منهم من يتيمم بخشوع لم يعهده من قبل، ومنهم يرتب هندامه للاستقبال العظيم في جنات النعيم، وكبار السن اشتد عودهم وعاد شبابهم، والنساء تبتسم وهي تجلس لآخر مرة مع رفقاء الدرب وأحباب العمر وسترة الدار، جتى الأطفال رغم العطش والجوع إلا أنهم يغطون في نوم عميق، وأحلام اليقظة كالطيور في الفردوس ترسم الابتسامة على وجوههم، وترطب جفاف أجسادهم المتعبة من ظلم يزيد ومن معه.
كربلاء بقعة أرض صغيرة للغاية، لكن في هذه الليلة اجتمع فيها الخير كله والشر كله،
فالملائكة تنتظر فعل الله لنصرة عباده، وإبليس ويزيد وأعوانهم، يعتقدون أنهم سينتصرون على الوعد الإلهي.
السيدة زينب عليها السلام روحها تتألم وهي تعلم أنها ستفارق روحها، فقد أخبرها أخاها الإمام الحسين عليه السلام، بأن الوداع اقترب وأنها مشيئة الله، فتتأمل وجه الإمام الحسين وهو يسبح بهدوء وسكينة، وكأن لا شيء يحدث حوله، ترتاح روحها لمشهد ثباته وقوته وهدوئه، ثم يعود الحزن فجاءة إلى محياها وهي تنظر إلى أمام بني هاشم والمسلمين، وهو يواجه هؤلاء الضباع وقطاع الطرق ومرتزقة الملعون يزيد.
وبينما السيدة زينب عليها السلام تئن بصمت كي لا يزعج بكاؤها أخاها الذي هو كل حياتها، جعلت الإمام الحسين يلتفت إلى أخته زينب عليهما السلام وقال لها ما بك يا أختاه لماذا هذا الحزن، لماذا هذا البكاء، يا أختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وإن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون، أن كنتي تبكين لحالي فأنا يا أختاه لست حزينا، وان كنت تبكين على حال من هم معنا انظري إليهم.
انظري إلى كفيلك أبا الفضل العباس، وقد ازداد جماله، انظري إليه كيف تيمم ليؤدي صلاته الأخيرة، وهو الآن بين يدي الله، اسمعي جهر تلاوته وحلاوة روحه وكان الملائكة تصلي خلفه، اسمعي دعاءه فإنه يدعو لك بأن يحفظك الله، وأصغي إلى اشتياقه وهو يقول لسيده الإمام علي يا أبي لقد حفظت الأمانة، حتى النفس الأخير، حتى هذا الحزن الذي بصوته، هو بسبب فراقه لك يا أختاه.
يا أختاه هل تشاهدين حبيب بن مظاهر الأسدي، كيف يدخل ويخرج من الخيمة وهو ممتلئ نشاط وحيوية كأنه ابن عشرين عاما مع أنه تجاوز ال 75 عاما، هل تلاحظين على حبيب أي علامات تشير إلى أنه خائف أو مرتعب من كل هؤلاء المجرمين الظلمة، يا أختاه أن حبيبا اليوم فرح بأنه سيلتقي الحبيب سيده الإمام علي بن أبي طالب، هو يريد أن يظهر كأنه شاب ليخبر سيده أنه ما زال فارس قوي صنديدا، وقد حفظ العهد والوعد واستشهد بين يدي ابن بنت رسول الله.
يا أختاه هل تعتقدين أن هؤلاء الأطفال الذين يبتسمون وهم نيام، أنهم الآن بيننا، أو أنهم أسافين على هذه الحياة التي ستكون تحت ظلم حكم يزيد، يا أختاه لا يوجد حر يرتضي العيش تحت ظلال العبيد الطغاة.
يا أختاه لقد شددت على كل من حولي وطلبت منهم أكثر من مرة أن يرحلوا تحت ستار الليل، لكنهم رفضوا، لأنه لا يمكن للكريم أن يعيش تحت حكم اللئيم، وشعار شيعتنا هيهات منا الذلة.
أما أنا يا أختاه فأنني راحل بسلام، فلا تبكي ولا تحزنين، أنا فرح بما آتاني الله من فضله، فأنا يا أختاه اشتقت إلى حضن أمي فاطمة عليها السلام، وإلى رؤية وجه أبي وتقبيل يده، وان اجلس مع أخي الحسن، بحضرة جدنا رسول الله، عليهم السلام أجمعين
يا أختاه من قتل في سبيل الله لا يموت، وقال الله في كتابه الكريم “وَلَا تَحْسَبْنَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهمْ يُرْزَقُونَ”.
وانا يا اختاه، إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر.
يا أختاه العمر رحلة وأنا انتهت رحلتي بعد أن قمت بواجبي، فلا تحزنين يا أختاه، وأوصيك يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل، وربت على يدها وابتسم.
وبكيت زينب وهي تقول يا ليل طول ساعاتك.
Discussion about this post