كتب رياض الفرطوسي
لا شيء ينهك جسد مدينة مثل صفارة إنذار لا تنطفئ. تُدار الحياة على إيقاع خبر عاجل لا يصل، على وعود بكارثة مؤجلة، على شائعة تختبر مرونة الأعصاب قبل أن تختبر صلابة الإسمنت. يصبح الخوف سياسة عامة بلا مرسوم، وتصبح الجملة الغامضة—“حدث كبير قريباً”—أداة حكم أفعل من ألف قانون.
في مناخ كهذا، يتكفّل الإعلام بصناعة الطقس: يوزّع سحباً سوداء كل صباح، ويقيس سرعة الريح على قلوب الناس، ويعطي نشرة رعب ساعة بساعة. يَستبدل قواميس الوقائع بعناوين صاخبة، ويشرح المصير بلغة المقاطع القصيرة والضحكات الجاهزة. بين الاستوديو والشارع يتشكّل اقتصاد جديد: ينتج الترقّب ويبيعه، يحرّض القلق ويقيس نسب مشاهدته. كل ذلك يجري بثقة من اعتاد أن يعرض الدم كخلفية بصرية للحوارات الخفيفة.
لكن الضجيج لا يحجُب السؤال البسيط: من يقرع الجرس؟ إن الدولة، حين تتفتّت سلطاتها بين غرف مغلقة وسفارات ومنابر ظل، تغدو صورة بلا جسد. تُرى الواجهة في المناسبات، وتُدار القرارات من الظلال. تُوزّع السلطة مثل رخص البناء: مربع لهذه القوة، وزقاق لتلك، فيما تبقى السيادة فكرة معلّقة في شعار. هنا يتحوّل المواطن إلى جمهور يُطلَب منه أن يصفّق لعرض لا يرى نصّه، وأن يتحمّل تبعاته بصفته “متلقياً جيداً”.
الإنذار الدائم ليس خبراً سيئاً فحسب؛ إنّه بنية نفسية. يتعلّم الناس كيف ينامون نصف نوم، وكيف يشترون المؤن كما لو كانوا يجهّزون الدولة بدل أن تجهّزهم. يتقنون فنون العيش على الحافة: أطفال يذهبون إلى المدارس على بدائل خطط الإخلاء، عيادات توفّق بين جداول الأدوية وموجات إشاعة الحصار، وأسر تدير ميزانياتها على فرضية أن الغد لن يكمل ما بدأه اليوم. يصبح “الاستعداد” هو الاسم الحركي لحرمان طويل الأمد.
لا يُصنَع هذا المناخ بلا أخلاق لغوية. حين يُسطَّح معنى الحرب إلى مفاجأة “سارّة” أو “قريبة”، تنكسر بوصلة المعاني: يختلط الفرح بالدم، والتهنئة بالنعي، والسباق على السبق الصحافي بالركض فوق الأكتاف. الأخطر أن القسوة تتأدّب: تُقدَّم بلباقة، في قوالب أنيقة، في برامج ذات مقدّمات موسيقية. تتعلّم الجماعة تدريجياً كيف تستقبل الإهانة بصفاء وجه، وتبتسم كاميرا الاستوديو وهي تعيد تركيب الخوف على هيئة مادة ترفيه.
في الضفّة الأخرى من العالم، لا تُدار حياة الناس بنشرات الغيب. لا تُقطع المياه بلا موعد مسبق، ولا تُطفأ الكهرباء بلا إشعار معلَّق على الأبواب. تُعامل القدرة على التخطيط كحقّ مدني، لا كامتياز يُمنح ويُسحب. ليس الفارق تكنولوجياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً: الاعتراف بأن الإنسان ليس مسماراً في آلة، بل كائناً يحتاج إلى يقين معقول ليبني عليه، وإلا فكل مؤسسة عدالة تتحوّل إلى ديكور.
في بلد تُدار فيه المخاوف كموارد طبيعية، تصبح الشائعات مؤسسة، ويغدو “المصدر الموثوق” عبارة مطاطة تفتح الأبواب لكل تأويل. تتحرّك القوات مثل قطع مسرح، تُنقَل من ركن إلى آخر لتكمّل المشهد، فيما يبقى السؤال معلقاً: ما الجدوى؟ ما الهدف؟ من صاحب القرار؟ يَسهل تحويل الشارع إلى قاعة انتظار ضخمة: الجميع واقفون أمام باب لا يُعلَن رقم دوره. الانتظار عقوبة بلا حكم.
غير أن الضرر الأعمق لا يظهر في الأخبار، بل في تفاصيل العيش: في قلب يتسارع لأصغر رسالة صوتية، في أمّ تعيد ترتيب أدراج الأدوية كل مساء، في تاجر يغلق متجره مبكراً لأن “الليل غير مضمون”، في طالب يختبر معنى الامتحان حين لا يضمن طريق العودة إلى البيت. هذا الاستنزاف المستمر يسرق من المجتمع قدرته على الفعل، يحوّله من فاعل إلى متلقٍ، من مواطن إلى هدف إحصائي في نشرات “الاستجابة للأزمات”.
لا يكفي التنديد بالمشهد. يلزم تغيير القواعد التي يُصنع بها. أول القواعد: أن تُلزم أي جهة تُدير شأناً عامًا ببيان مسؤول ومؤقّت ومفصّل كلما تعلّق الأمر بأمن الناس ومعاشهم. ثانيها: ميثاق مهني للإعلام يضع خطوطاً لا تُستباح باسم السرعة والمنافسة—خطوط تحمي اللغة من الابتذال والقلوب من التخدير. ثالثها: إعلان واضح لمواضع القرار ومن يصدره، بحيث لا تتحوّل “الجهات” إلى قناع دائم. رابعها: تعليم مدني يدرّب على التفريق بين الحقائق والضجيج، وعلى بناء خطط حياة لا تنهار مع أول إشاعة.
لا ينبت اليقين من فراغ، بل من إجراءات صغيرة متماسكة: جدول زمني يلتزم، نافذة خدمة تعمل، جهة تُسأل فتجيب، ميزانية تُعرض للأعين قبل أن تُصرف، سلطات تُحاسَب أمام قانون لا أمام “أجواء”. وحين يعاود الإنذار صفيره، لا يُطفأ بالصراخ عليه، بل بتحويله إلى معلومة قابلة للتحقق والقياس والمتابعة.
اللغة أيضاً جزء من الإنقاذ. علينا أن نعيد المعاني إلى مقاعدها: الحرب ليست “خبراً عاجلًا”، بل فشلًا فادحاً في السياسة؛ الاغتيال ليس “رسالة”، بل جريمة؛ الحصار ليس “تكتيكاً”، بل عقاب جماعي؛ والضحك فوق حافة الدم ليس خفة دم، بل سقوط أخلاقي. حين تستقيم الكلمات، يستقيم معها بعض الواقع؛ فاللغة ليست مرآة بريئة بل أداة صنع.
قد يبدو هذا كله مثالياً في مدينة اعتادت العيش تحت سطح القلق. لكن البديل واضح: استمرار دورة ترويع تنتج جيلًا يُجيد التكيّف مع ما لا ينبغي التكيّف معه. ليس مطلوباً أن نصير أبطالًا، بل أن نرفض ترقية الخوف إلى وظيفة رسمية، وأن نطالب بأبسط الحقوق: جدول معروف، خبر مسؤول، قرار موقّع، وإعلام لا يبيع القلق بالمكيال.
الإنذار الدائم ليس قدراً. إنّه اختيار سياسي وأخلاقي واقتصادي. ومثل كل اختيار، يمكن التراجع عنه حين تقرّر الدول أن تحكم بمعنى الحكم: أن تضمن الحياة قبل أن تنظّم الموت، وأن تحترم عقول الناس قبل أن تطلب صبرهم. إلى أن يحدث ذلك، سيبقى على كل واحد فينا واجبان متلازمان: أن لا يصدّق صفارة بلا دليل، وأن لا يتصالح مع صمت يطلب منه أن يعتاد الظلام.
Discussion about this post