بسم الله الرحمن الرحيم
*”الناس قد صعدوا إلى القمر وأنتم عالقون عند الاختلاط والمولد النبوي والصلاة والصيام.. الخ”*
في محاضرة ألقيتها سنة 2009 بمقر مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية ناقشت الإشكالية المطروحة أعلاه تحت عدة عناوين:
١- الفكر أداة من أدوات الصراع.
٢- الفكر أداة من أدوات القوة.
٣- الصراع العربي الصهيوني نموذجا لقوة الفكر.
✍🏻 محمد حسن زيد
*(الفكر أداة من أدوات الصراع)*
لكل فكر خصائصه التي تعكس نفسها على الواقع ، فبعض الفكر – إن تم اعتناقُهُ – يكون سببا في اكتساب مزيد من القوة والإصرار والقدرة على الصمود والتحمّل فرديا واجتماعيا، بينما بعض الفكر – إن تم توجيهه – يمكن أن يكون له تأثير تدميري على الخصوم تماما كالفيروس الذي يُدمّر أنظمة التشغيل ويصيبها بالشلل فهو يشتت الخصوم وينهك عزيمتهم وإصرارهم وتماسكهم ويؤدي بهم في النهاية للهزيمة أو التضعضع قبل خوض المواجهة العسكرية، ومن هنا كانت الدعاية النفسية أحد أهم أدوات الحروب لاسيما الحديثة منها، ومن هنا اكتسب الفكر أهميته كأداة من أدوات الصراع.
*(الفكر أداة من أدوات القوة)*
لماذا نردد النشيد الوطني؟! ولماذا نفخر بالعلم ونردد شعارات الثورة والجمهورية كل يوم في المدرسة؟! ولماذا نشاهد صور الرئيس في كل مكان تقريبا؟!
الجواب: الدعاية السياسية وبث الروح الوطنية هما من أهم الدعامات لاستقرار الأنظمة السياسية وقوتها حسب المفهوم المعاصر بل إن لها دورا محوريا عندما تخوض تلك الأنظمة حروبا، فما الذي قد يُقنع رجلا من محافظة البيضاء أن يخاطر بحياته لأجل توسيع سلطة الرئيس غير الروح الوطنية المترسخة لديه؟ وما هي تلك الروح الوطنية ومن وضع حدودها وكيف تحددت معالمها وكيف نمت واستوعبت معنى الوطن؟! كل تلك الأسئلة تجيب عنها الأنظمة المعاصرة عبر الدعاية السياسية وتغرسها في قلوب النشئ منذ الطفولة لتصنع الانتماء وتوجه الولاء كيفما تريد، وكلما نجحت في ذلك أكثر كلما كانت الأرضية التي تتحرك عليها أقوى وأصلب.
نفس الحال ينطبق على ما نشعر به جميعا من الروح القومية، والروح الدينية، والفارق أن هاتين الروحين غير مصطنعتين ولا تحتاجان لدعاية للإحساس بهما كتلك التي تحتاجها الأوطان القُطرية المصطنعة، فما الذي يدفع العرب للتعاطف مع قضية فلسطين سوى الروح القومية لديهم؟ فالكثير من الشباب العربي انخرط في الكفاح الفلسطيني ولم يثنه عن ذلك لا البعد ولا القتل ولا السجن ولا التعذيب بما يؤكد انه لا يرى فرقا بين وطنه وبين فلسطين بل يرى أن فلسطين هي وطنه وقضيته أيضا.
و”الشرعية” إنما هي مجرد فكرة إن ترسخت في أذهان الناس لنظام ما فإن ذلك النظام سيكون قويا وصلبا وإن تبددت عن أذهان الناس فإن النظام و رموزه وعماله سيكونون في منتهى الضعف وعلى حافة السقوط والانهيار.
وكذلك “التشبث بالحق” إنما هو فكرة تترك أثرها في نفسية المتشبث بحقه إيجابا وعزيمة كما تترك أثرها في نفسية المعتدي على حقوق الآخرين سلبا وخوفا.
والدين بما يختزنه من عقائد إنما هو مخزون فكري مركب له اعتباره كأداة فعالة من أدوات الصراع، والاتحاد السوفيتي الذي كان يروج لفلسفة الإلحاد المادية المعارضة للدين لجأ للكنيسة لحسم حربه ضد النازية، فمن من الناس يمكن أن يضحي بحياته في ظل الإلحاد ومن أجل المادة؟!
*(الصراع العربي الصهيوني نموذجا لقوة الفكر)*
المتابع للصراع القائم بين الصهاينة والمسلمين سيعرف جيدا كيف استغل الصهاينة تعاطف المجتمع الغربي مع اليهود بسبب المحرقة من جهة واستغلوا بعض عقائد الإنجيليين واليهود من جهة أخرى لاغتصاب فلسطين وتهجير أهلها وظلم شعبها، ولولا الترويج لفكرة “أرض الميعاد” وفكرة “المحرقة” والاعتقاد بفكرة “أرماجدون” لما كان بالإمكان اغتصاب فلسطين.
وفي المقابل فإن من أهم عوامل الهزيمة النكراء التي تعرضت لها الامبراطورية الإسلامية العثمانية وأدت إلى معاهدة “سايكس بيكو” المشؤومة كانت بسبب ظهور الفكر الوهابي “سيف انجلترا الناطق باسم الإسلام”.
وبعد ظهور الحركة القومية العربية استبشر العربُ بالنصر وتغنوا بالوطنية والعروبة بعد أن أداروا ظهرهم للإسلام فأحلوا الحرام وحرموا الحلال واستهانوا بالعلماء ورفعوا من شأن السفهاء، ولكنهم في ساعة الجد تعرضت جيوشهم الستة لهزيمة نكراء وفي وقت قياسي طرحت تساؤلات عديدة حول جدوى التغير الفكري الذي فلسفت له الحركة القومية العربية وبالفعل لم ينجح النظام المصري عسكريا في حرب رمضان 73 إلا بعد أن ردد مجددا شعارات الإسلام واستفاد منها كنقطة قوة وعزيمة قلب بها موازين القوى على الأرض وحطم بها جدار بارليف الأسطوري.
وفي التجربة الحالية للمقاومة الإسلامية ورغم محدودية إمكاناتها وتآمر الأنظمة العربية عليها والتشنيع الإعلامي بها ومحاولة إفشالها ورغم الواقع المتناقض الذي تنطلق منه والذي تسوده التوترات الحزبية والمذهبية والعشائرية ورغم شيوع الفقر والجهل والمرض ورغم الفساد المالي والإداري ورغم كثرة العملاء وتجار النخاسة في سوق الولاء لمن يدفع أكثر ورغم الخلل الهائل بين المقاومة الإسلامية وبين الصهاينة في موازين القوة لصالح الصهاينة ومن ورائهم العالم الغربي بأجمعه وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية فالصهاينة متفوقون تنظيميا وسياسيا واقتصاديا واستخباريا وعلميا وصناعيا وتكنولوجيا ويمتلكون خطوط إمداد لا محدودة وتأييدا دبلوماسيا لا مشروطا إلا أن معركتهم مع حركات المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين هي معركة خاسرة ومكلفة بكل المقاييس.
وفي ظل هذا الخلل الهائل في موازين القوى وبالمعايير المادية المجردة زادت مبررات الأصوات الاستسلامية داخل صفوف العرب والمسلمين بل يفلسف لها الكثير من الساسة باعتبارها تحكيما للعقل وتحملا للمسؤولية في ظل رؤية مادية للعالم يصعب معها استيعاب معنى التضحية والصمود وبمعية جيل من المثقفين نشأ مستوحشا عن الإسلام والديانة بل ومعتبرا إياها تخلفا وتعصبا وعودة بالزمن إلى الوراء.
ومن رحم الهزيمة النكراء ولدت المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان، وهي مقاومة تختلف فكريا في عقيدتها وفي رؤيتها للحياة والواقع عن رؤية قادة الأنظمة الماديين ومثقفيهم، وفي ظل شعارات “هيهات منا الذلة” وشعارات “لا نرى القتل لنا إلا عادة والموت إلا سعادة”، وفي ظل فكر يقدس الجهاد والشهادة والعطاء ويؤمن بالتضحية والفداء ولا يهاب الموت ولا يخشى من آلة التدمير والخراب كان من المستحيل هزيمة المقاومة وكسر إرادتها وإرادة شعوبها المستضعفة المحاصرة طالما ظلت على فكرها الذي أثبت أنه أمضى من كل سلاح بل أصبح نقطة القوة الاستراتيجية التي أعادت تحديد قواعد الاشتباك بالمعكوس.
كيف تهزم شعبا لا يكسره منظر الضاحية الجنوبية المريع ولا مشهد القرى المحروقة في الجنوب، ولا أشلاء الأطفال والنساء المحاصرين لسنوات في غزة ولا قوافل الشهداء والأسرى والمهجرين في الضفة الغربية؟! كيف تهزمه وكل ما تستطيع أن تفعله به من قتل وترويع واضطهاد وتعذيب وجبروت قد فعلته حتى لقد استوحش القاتلون أنفسهم من شناعة ما يفعلون؟
ولطالما ظلت الأسس التي ترتكز عليها المقاومة الإسلامية هي الفكر، فمن المستحيل هزيمتها.. والعدو يعرف قبل الصديق أن السبيل الوحيد لكسر المقاومة ليس إلا بضرب الفكر الذي تستند عليه وتستمد قوتها منه، والفكر هنا هو نقطة القوة التي لم يعد بها الخلل في موازين القوى المادية يعني شيئا إلا مزيدا من الإجرام واقترابا أكثر من الهزيمة.
ولذلك وفي محاولة يائسة لضرب الفكر الإسلامي الذي أطلق المقاومة ازدادت حملات الغزو الفكري شراسة في الآونة الأخيرة وانفتحت كثير الملفات والقضايا التي تخاطب النعرات وتثير الشهوات وتولد الانقسامات وتضع الشبهات عن حقوق المرأة وعن جدوى السلاح والجهاد وعن حاكمية الشريعة لهز ثقة المجتمع الإسلامي بفكره وعدالة معتقده، وينبغي علينا أن لا ننجر بألاعيب عدونا فنسلب أنفسنا السبب الأخير من أسباب قوتنا ومنعتنا وعزتنا وكرامتنا ألا وهو الولاء المطلق لفكرنا واليقين التام بعدالته وقدسيته والتضحية اللا محدودة بين يديه.
Discussion about this post