إلى عزيزي العزيز-مُجاهدي- 19.
رويدا البعداني
ثمة مواقف آسرة تفقد لغتك في حضرتها، تجردك من فصاحتك، تنتشلك من غور الأبجدية إلى غياهب الصمت المكنون. تجد نفسك حيالها كقنينة بائسة أفرغ ماؤها لتظل عرضة للهواء العابر، بل كقارب مثقوب تتقاذفه أمواج الحنين يمنة ويسرة إلى أن ترميه في حضيض المحيطات دون أي مقاومة .. ؟ نعم إنها المواقف الأشد إيلاما ووهنا، ومنها عودة غائب طال غيابه ردحًا من الزمن.
هاقد عدتُ ياعزيز قلبي، عدتُ لترمي بنفسك في حضن أمي الرؤوم لترتد حياتها بصيرة، فكما تجهل أن غيابك المديد قد أحدث بياضا في أيامها وشهورها، حتى أنها لم تعد لترى الحياة حياة، فتارة أراها تفتش عنك بين رفوفنا العتيقة متأملة صورتك علها تسعف فؤادها النابض شوقا إليك. وتارة أجدها تلتحف ملابسك قبل أن تنام، وحين أسألها عن السبب، ترد بتنهيده مهيضة :- لعلي ألقاه في محافل الأحلام والناس نيام.
اليوم حين عدتُ رأيتها تنتشي جذلا وفرحا، حتى أنها من فرط سعادتها بكت، وكم هي عزيزة دموع الأمهات حين تشرع بالانهمار، هذه اللحظة لم تغب عني قط، لازالت ذاكرتي تعود بي إليكما حين كانت تحتضنك بكل مااستطاعت من وله وشوق، بعدها تتحسسك لتتأكد إن كنت حقيقة أم ظلا يؤجج مشاعرها ككل مرة، خاصة بعد أن وصلها آخر نبأ عنك، مفاده أنك تعرضت لحادث خطر سببه قصف جوي طاغ وأنت في جادة طريقك لتنقل المدد، لتوها أرتج عرش صبرها، وماعادت تصدق أنكَ خرجتَ سالما معافا، حتى من رأوك من بعيد لم يصدقوا أنك لازلت حياّ، فبقاؤك كما قالوا كان معجزة. والأهم من ذلك أنك بعدها بثلاثة أيام عدتُ للعمل غير عابئ بما حل بك، بل زدت شموخا وصمودا… ماأعظمك من مجاهد!
حاولت جاهدا أن أواسي لهيب جأش أمي، لكنني فشلت كون صورة الحادث وأتونه كفيلا باضرام نيران في خلدها أعجز عن ترويضه وإطفاء حريقه. لذا حين رأتك ظلت تتأملك بعينها، بقلبها، بجوراحها، تجيل النظر فيك لهنيهة وبعد ذلك تعود لتضمك إلي جوانحها تماما كما كنت في المهد رضيعا، وهاأنت اليوم كبرت وأصبحت شابا يافعا. كُنا أسارى في حضرتكما، إلى أن أتى أبي من الخارج دون علمه بعودتك، كان يظن أنه يحلم أيضًا لكنه أدرك أنكَ حقيقة وغدا يضمك بين حناياه التى غزاها الانتظار لشهور. كانت لحظات ممزوجة بالفرح والبكاء في آن واحد، لحظات كان لزاما على اليراع أن يسجل ولو بعضا منها. وهكذا عاد أخي، وبهذا أكون قد أكملت من غزل رسائلي الزاجلة، ومن يدري ربما عدتُ إليها فأنا أعيّ جيدا أنك ستعود في غضون أشهر لمشروعك الجهادي، وسأعود أنا لاسترسال مشاعري وتدوينها في رسائل زاجلة إليك.
#رسائل_زاجلة_إليك.
٢٥/تشرين الثاني/٢٠٢٠م
Discussion about this post