ضرورة الالتزام وخواء التعصّب
نخلط أحيانا بين التعصّب والالتزام، وربما استغلّ البعض هذا الخلط ليقول للناس، لم يعد هناك جدوى من الالتزام برؤية معيّنة؛ فلسفية كانت، أم اجتماعية، أم دينية… وأن الخيار الأمثل للانفتاح والتحرّر من ضيق التعصّب، ليس إلا التجرّد من الأيديولوجيات، أيّا كانت. ولعلّ ما قام به منظّرو الليبرالية، وعلى رأسهم (فوكوياما)، يؤكّد ذلك.
لكنّ واقع الحياة، وطبيعة الإنسان، بعيدان ،كل البعد، عن هذا التصوّر، لأنّ الإنسان لابدّ وأن يتبنّى رؤية له في الحياة. بل حتى أولئك الذين يرفضون الانتماء إلى أيّ من المدارس أو الأديان، ويصرّون على عدم الانتماء؛ يصبح (اللاإنتماء) رؤية واتجاها لهم. إذن، الالتزام برؤية في الحياة، ضرورة إنسانية لامناص منها. ويبقى السؤال الملح:
ترى، هل يعني الالتزام بمبدأ ما والحفاظ عليه، أن نتشدّد له ونتعصّب له، وننغلق عليه باعتباره حقا مطلقا؟
وهل هناك فرق بين الالتزام والتعصّب؟ وما الخصائص التي تتّسم بها كلّ من الشخصية الملتزمة، والشخصية المتعصّبة؟
لا اختلاف بين العقلاء في التمييز بين الالتزام والتعصّب، ولعلها من بديهيات القضايا، على الرغم مما يعتري مواقفنا العملية من مخالفات لهذه القناعة! إلا أن تسليط الضوء ،تحليليا، على مايميّز شخصية الملتزم عن شخصية المتعصّب؛ من شأنه التوضيح وتمكيننا من مراجعة مواقفنا، للتخلّص ،ما أمكن، من تشدّدنا وتزمتنا العملي.
يتجلّى الفارق بين الشخصيتين في نقاط متعدّدة، وأهمّها:
1- يقوم الالتزام على على قناعة تعمر داخل الإنسان، تنطلق من أسس عقلية بديهية وفطرية، وتبنى في أجواء من الحياد والموضوعية؛ فيما يقوم التعصّب غلى تبنّي مسبقات فكرية، أو عقدية، أواجتماعية، أو سياسية… انفعالا وارتجالا، بعيدا عن التمحيص العقلي والاستدلال الحر.
2- يبقي الملتزم الأبواب مشرعة، ليفسح المجال لتلاقح أفكاره بأفكار الآخرين، والاستفادة من آرائهم وتجاربهم، طالما أنه يتعاقد مع الحقّ والحقيقة في انتمائه وتوجّهه… لكنّ المتشدّد يعيش ضيق الانغلاق، ولايسمح لنفسه ،ولمن معه، بتقبّل أي من الأفكار الجديدة، حتى ولو كانت صحيحة ومحقّة! وذلك لأنه لم يبن تصوراته ومفاهيمه ،أساسا، على البرهان والنظر القويم، كما اتّضح في الفقرة الأولى.
3- ينفتح الملتزم ،بحكم قبوله النقد والنقد الذاتي، على المراجعة الدائمة، ويتمكّن ،بهذا، من تشخيص أخطائه، والعمل على علاجها، على صعيد الفكر والمسار العملي معا؛ بينما يكابر المتعصّب، ويلقي بفشل خياراته، على الآخرين، سواء أكانوا من الأعداء أو الأصدقاء، و على الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… ولأجل هذا نجد أن المبالغة في نظرية المؤامرة، واختلاق الأعداء والخصوم، تكثر في أجواء التعصب الطائفي، والفكري، والسياسي..
4- يتلمّس الملتزم البعد الإنساني العام في فكره وحركته دائما، التزاما منه بالأسس الفطرية والعقلية النوعية التي انطلق منها؛ بينما نجد المتعصّب ،وانطلاقا من العزلة والانطوائية التي يعيشها، يمارس الإقصاء، والتعنيف، والبعد عن الصفح والتسامح، في علاقاته مع الآخر. الأمر الذي يجرّده عن القيم الإنسانية في تصرّفاته ،إلى درجة، لا نستبعد قيامه بأبشع الأعمال وأكثرها بعدا عن الرحمة والإنسانية، وعلى رأسها القتل بغير حق!
انطلاقا من المقارنة أعلاه، يمكننا استشعار خطورة ذهنية التعصّب وأبعاده المدمّرة ،وبالتالي، ضرورة العمل على مكافحته، ومحاربته في الميادين كافّة؛ الدينية، والاجتماعية، والسياسية… ما يجنّبنا ويلات وباء لايترك للفكر، والدين، والسياسة، و… ادنى قيمة إيجابية في حياة البشر.
جمال صالح جزان
Discussion about this post