ينطلق الإيمان من حقيقة دفينة في أعماقنا. ولعلّ فيما نتج عن الدراسات التاريخيّة، والأريكيولجيّة(علم الحفريّات)، والأنثروبولوجيّة… ما يؤكّد هذه الحقيقة؛ إذ توصّل الباحثون في هذه المجالات إلى أنّ الإنسان لم يغادر الارتباط بالمطلق والغيب على امتداد الزمن. فلم تلبث البشريّة -أفرادا وجماعات- التعلّق بقوّة غيبيّة متسامية، تستمدّ منها العون والطمأنينة، وإن اختلفت أشكال التعبير والترميز لهذه القوّة. فرغم التجسيدات الحسّيّة للمعبود وتعدّدها في كثير من الأديان( نبات، حيوان، بشر، أفلاك، نجوم، كواكب…)، فإنّ الدراسات النفسيّة الحديثة تصرّح بأنّ معتنقي هذه الأديان، لايقفون في ارتباطهم وخضوعهم عند الحدود المادّيّة الطبيعيّة لهذه المعبودات، وإنّما يتوجّهون في أعماقهم ولاشعورهم إلى قوّة ،أو قوى، غيبيّة تعلو على المشخّص المحسوس، حلّت في هذه الموجودات المادّيّة…
تتجلى الظاهرة الإيمانيّة-الدينيّة من خلال منافذ عديدة، وعبر سلوكيّات متعددة في الواقع الإنسانيّ. فحتى من لاينظر إليها نظرة إيجابيّة ولايعترف بها، لايجد مفرّا من الانفعال والتأثّر بها -شعر بذلك أم لم يشعر-، انطلاقا من منطق الاحتياج المتأصّل في كينونة الإنسان، والذي يجلّيه ويعبّر عنه مصطلح (المخلوقيّة) المعتمد في الآثار الدينيّة، ولاسيّما السماويّة منها.
لاشكّ بأنّ قيمة الإيمان -شأنها شأن القيم الإنسانيّة الأخرى- تعاني أزمات ومشاكل، والمشكلة الكبرى، التي تعانيها الظاهرة الدينيّة تتمثّل في الارتباك الذي يعتري العلاقة مع المطلق (الله سبحانه وتعالى)، بفعل الاضطراب والضيق الذي يعانيه الفرد المؤمن، وانسحاب الأمر بعد ذلك على المجتمع المتديّن عامة.
إنّ العلاقة الدينيّة ،كما عبّرنا أعلاه، تمثّل علاقة حيويّة تكوينيّة بين المحدود (المخلوق)، واللامحدود (الخالق عزّوجل)، والمفروض بهذه العلاقة أن تتّخذ مسارها الطبيعيّ وفق الاختيار والوعي الإنسانيّ؛ بمعنى أنها لابدّ وأن تتجلّى من خلال إرادة الإنسان ووعيه وفكره، وبالتالي تتحدّد مستوياتها ومساراتها صعودا وهبوطا بدرجة الوعي والإرادة الإنسانيين؛ الأمر الذي يربك العلاقة -وغالبا ما يحرفها عن جوهرها ومسارها التكامليّ الطبيعيّ- عند اختلال وعيها ودرجة التعلّق بها.
لهذا يمكن أن يتبلور التديّن في صور متشدّدة منغلقة تسخّره لصالح فئة أو مجموعة ما انطلاقا من غرض أو أغراض ضيّقة. في حين أنّ حقيقة الإيمان تتّسع للجميع عطاء ورحمة… وتمتدّ حتى إلى من يرفضها؛ على المستوى التكويني؛ لأنّ نعمة الوجود والخلق تعمّ الكون، بل وعلى المستوى التشريعي أيضا، حيث يحرص التشريع الإلهيّ الأصيل على حريّة الإنسان وكرامته {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ}(سورة البقرة/256).
بالنظر إلى ماتقدّم لايسعنا إلا أن نقول: إنّ كل ما تجلّى من معاداة الدين تاريخيّا، لايعدو سوى ردّات فعل تجاه التعبيرات المضطربة وغير السويّة لهذه العلاقة المقدّسة، ولا يمثّل في حقيقته معاداة لأصل الدين وتوحيد الخالق. يقول تعالى: {قل لئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله}(سورة لقمان/ 25)
والجدير بالذكر أنّ العلاقة الأصيلة النقيّة للظاهرة الدينيّة، والتي تجسّد أسمى القيم الإنسانيّة على الإطلاق، باعتبارها تربط الإنسان بمسار الكمال… لابدّ لها أبعادها المسلكيّة، وانعكاساتها على تركيبة العلاقات الاجتماعيّة ومناحيها المختلفة؛ ممّا يعني أنّها ذات طبيعة معيّنة قد تتنافى وما تقوم عليه تركيبة العلاقات الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة القائمة. ومن هنا تنطلق مشروعيّة المطالبة بتماهي التشريعات المنظّمة لحياة الإنسان والنزوع الكامن في جبلّة الإنسان، بعيدا عن التشدّد والفرض والوقوف في وجه الحرّيّة الإنسانيّة… لأنّ تجاذبا سيبقى قائما بين الفردي من جهة، والاجتماعي من جهة أخرى في حالات التنافي، بغضّ النظر عن الطريقة التي نعتمدها في التوفيق، ومدى صحّتها من عدمها.
أن نعود إلى قيمة الإيمان بصدق وشفافيّة وتجرّد؛ ليس إلا فتحا لأبواب التلاقي والتآخي الإنسانيّ.
جمال صالح جزان
Discussion about this post