البحر الأحمر والمتغيّر الجيوبولتيكي اليمني
} د. حسن أحمد حسن*
تداعيات ملحمة طوفان الأقصى في حالة طوفان مستمر، وما أن تصل موجة كبرى إلى شاطئ الحقيقة والواقع حتى ينشغل المتابعون بمرتسمات موجة قادمة أشدّ ارتفاعاً وأكثر تأثيراً وعلى شتى الصعد التي تتجاوز قطاع غزة والجغرافيا الفلسطينية بكليتها، لا بل جغرافية المنطقة، وهذا بحد ذاته الميزة الأهم التي صبغت ملحمة الطوفان من بداية انطلاقة الوثبة الأولى للمقاومين في السابع من تشرين الأول الماضي وحتى اللحظة الحاضرة، ففي كل يوم تتبلور معطيات جديدة تتجاوز بدلالاتها وأهميتها القطاع المقاوم وما يسطره الغزاويون الأبطال من أداء ميداني يذهل العالم، ويسقط بأيدي حكام تل أبيب وداعميهم إقليمياً ودولياً، وهنا تكمن أهمية فهم المتغيّرات الجيوبوليتكية التي ترخي بظلالها على توازن القوى القائم وقواعد الاشتباك التقليدية، وتفرض على طاولة العمليات لدى الجميع خارطة التأثيرات الحتمية القادمة لما يجري على النظام الكوني بكليته، فالهيمنة الأميركية المفروضة منذ عقود على القرار الدولي، وتفرّد واشنطن بالأحادية القطبية لم تهتز روافعه بهذه الشدة على الرغم من أهمية التطورات والاحتقانات والاستعصاء المزمن الذي عانت منه وما تزال العلاقات البينية للقوى الكبرى الفاعلة والمتمتعة جميعها بحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، وهذا يمنح الفعل المقاوم على مختلف الجبهات المفتوحة، وبخاصة جبهة اليمن والجبهة الغزاوية ميزة استثنائية وأهمية إضافية لا يمكن تشويهها، ولا تقديم قراءة نهائية لأهميتها التي تراكم في كل يوم دلالات جديدة غنية بالمعاني ذات الأهمية الخاصة والاستثنائية، وإطلالة يومية ولو كانت سريعة على ما ينشر في الإعلام الإسرائيلي بخاصة والإعلام الدائر في الفلك الأميركي بعامة كفيلة بتوضيح الصورة التي لم يعد بالإمكان إخفاؤها ولا طمس معانيها ودلالاتها أو حرق معالمها العامة بزيادة شدة الوحشية والهمجية التي تعتمدها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة وفلسطين والعروبة والإسلام والمسيحية وقيم المجتمع الدولي وقوانينه وأعرافه التي تميّز المجتمع البشري عن الغاب وقانون البقاء للأقوى، حتى أن عوامل القوة التقليدية تبدّلت وشهدت تعديلات جوهرية على طرفي معادلة القوة وردع أصحاب نظرية القوة، وفرض نهج المقاومة على الفكر الاستراتيجي الكوني مبدأ «القدرة على تحمل تكاليف الاستخدام المفرط للقوة التدميرية» وأهمية «الصبر الإستراتيجي» المتضمّن تفعيل الإمكانيات الذاتية والاستثمار بها، والتدرج في مراكمة امتلاك وسائل الدفاع عن الوجود والحق في الحياة بكرامة، وتطوير القدرات المتاحة بشكل متدرّج يلزم أصحاب نظرية» من ليس معنا فهو ضدنا» على إعادة محاكمة مسلمات تعاملهم مع الآخر الرافض لكل أشكال الخضوع والتبعية، ولعلّ ما فرضه اليمن المقاوم اليوم الشاهد الأبرز على صحة ما نقول، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى عدد من النقاط والعناوين العريضة المتعلقة بهذا الأمر، ومنها:
*القرار اليمني بفرض مبدأ «الحصار مقابل الحصار» سابقة في تاريخ الصراع المسلح والحروب المزمنة التي فرضها أنصار «سياسة القوة» على المنطقة وشعوبها ودولها على امتداد العقود الماضية، في ظل غياب أي معادل موضوعي قابل للاستثمار به والبناء على مفرزاته.
*القرار اليمني يتجاوز بدلالاته الأولية الرد على العدوانية والوحشية الصهيو ــ أميركية ليشكل بذاته المتغير الجيوبوليتكي الأهم في الصراعات المستحدثة التي لم تكن تقيم وزناً للقوى الدولية العظمى والكبرى والصاعدة بذريعة حماية الملاحة البحرية العالمية، وليس بإمكان واشنطن وكل حلفائها إلا الوقوف الجدي والمسؤول والبعيد عن التهور أمام هذا المتغير الجديد.
*القرار اليمني فضلاً عن كونه نصرة مباشرة للشعب الفلسطيني الذي يعيش كل مفرزات حرب الإبادة الجماعية هو منسجم مع القانون الإنساني الدولي، ويمكن اعتباره تجسيداً مباشراً لإرادة المجتمع الدولي الذي قال كلمته بمطالبة /153/ دولة برفع الحصار عن فغزة ووقف النار وإدخال المساعدات الإنسانية، لكن الفيتو الأميركي عطل قدرة مجلس الأمن الدولي على اتخاذ قرار فاعل قابل للتنفيذ، والخوف من غضب الوحش الأميركي المضطرب والمتوجس شرا من المستقبل جراء النزف المستمر والمتزايد دفع غالبية العالم لالتزام الصمت العملي والاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة، فجاء القرار اليمني ليفرض متغيراً جيوبوليتيكياً جديداً ظهر وتبلور وأعطى نتائجه الأولية رغم أنف الإدارة الأميركية.
*مسارعة واشنطن لإعلان تشكيل ما أسمته «تحالف الازدهار» أو الرخاء كانت عبثية واستعراضية مفضوحة الأهداف والغايات الخبيثة التي زادت من ارتخاء القبضة الأميركية على القرار الدولي أي أنها أتت بنتائج عكسية لما أرادته إدارة بايدن بدليل:
ـ إعلان عدد من الدول التي أعلن عن انضوائها في التحالف المبشر بولادته أن لا علم لها بإضافة أسمائها إلى التحالف المعلن عنه.
ـ تأكيد دول وازنة أنّ قواتها لن تكون ضمن التحالف المذكور مع أنها ضمن التحالف الأطلسي الذي تقوده واشنطن:/ فرنسا ــ إيطاليا ـــ إسبانيا…/
ـ رفض دول أخرى إرسال سفنها الحربية إلى المنطقة: /هولندا ــ النرويج ــ الدانمارك…/ والاكتفاء بإرسال بضعة جنود أو عدد قليل من الضباط أقلّ من أصابع الكف الواحدة.
ـ امتناع جميع الدول المتشاطئة على البحر الأحمر عن الانضمام المباشر للتحالف، مع أنها منضوية تحت العباءة الأميركية، وهذا دليل على أنّ التفكير بشقّ عصا الطاعة العمياء لأميركا قد انتقل من إطاره النظري إلى العملي عندما يكون السير بالركب الصهيو ـــ أميركي يعرّض الأمن القومي لتلك الدول للأخطار والتهديدات، وهذا بحدّ ذاته متغيّر جديد يمكن البناء عليه.
ـ القرار اليمني الجريء يُعتبر كسراً مباشراً لإرادة الهيمنة الأميركية، وتحدياً جدياً ليس بإمكان واشنطن تجاهله ولا الحدّ من دلالاته السلبية على الهيبة والنفوذ وتآكل كلّ ما له علاقة بالردع والانتقام الأميركي أو الإسرائيلي، ومن الطبيعي أن يشجع هذا الواقع بقية الأطراف الإقليمية والدولية على إعادة حساباتها بعقلانية وجدية ومسؤولية.
ـ التسمية التي أطلقتها الإدارة الأميركية على التحالف مستفزة للجميع، لأنها تعبير مباشر عن الاستخفاف بعقول المجتمع الدولي، فعندما يقولون: «حارس الازدهار أو الرخاء» من الطبيعي أن يتساءل المتلقي عن أيّ ازدهار يتكلمون، وأيّ رخاء هذا الذي يشيرون إليه؟ فإذا كان المقصود منع اليمن من تنفيذ قراره، فالقرار اليمني عمره أيام فقط، وهو نتيجة وليس سبباً، والتساؤل المشروع: هل كانت دول المنطقة والعالم تنعم بالرخاء والازدهار قبل القرار اليمني؟ وهل الازدهار المطلوب يشمل الجميع، أم أنه خاص بالكيان الإسرائيلي كمكافأة مباشرة له للاستمرار في حرب الإبادة الجماعية المنفذة ضدّ الشعب الفلسطيني من دون أن يرفّ جفن لأنصار الديمقراطية والحرية والحقوق الإنسانية وفي مقدمتها حق الحياة بكرامة.
خلاصة
الوضع الجديد الذي أفرزه القرار اليمني أكثر من استراتيجي، ومن حق المتابع المهتمّ أن يتساءل إن كانت القوتين العظميين روسيا والصين قادرتين على الاستثمار في هذا المتغيّر الجديد لتسريع انهيار الأحادية القطبية، أم أنّ متطلبات إنزال العقلية الأميركية المتسلطة عن الشجرة العالية التي تسلقتها إدارة بايدن تتطلب قدراً إضافياً من البرودة المعهودة تجنباً لأية خسارة أو تكاليف يبدو أن أطراف محور المقاومة قادرة ومستعدة لدفعها بعد أن حبا نتنياهو ــــ تيمناً بالمايسترو الأميركي ــ جذع الشجرة التي تسلقها شاغل البيت الأبيض تنفيذاً لرغبة من يتحكمون بمفاصل صنع القرار الدولية، ويعملون لتكريس كل خيرات البشرية لخدمة مصالحهم الذاتية فقط، ولا يعنيهم أن تذهب المنطقة والعالم إلى الجحيم…؟
تساؤل يبقى مشروعاً، وعسى الآتيات من الأيام تحمل معها بعض أمل، وإن كانت المعطيات تؤكد أنّ من صنعوا هذا المتبدّل الجيوبولتيكي الجديد لا ينتظرون إذناً من أحد للوصول به إلى خواتيمه المأمولة.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك
والدراسات الاستراتيجية
Discussion about this post