كمال الكيلاني – كاتب تونسي
لست هنا بمقام حراق البخور في بلاط قصور حكام وملوك أو ممجد مدفوع الأجر، فلا هذا النوع من القادة يملكون قصورا ولا هم بحكام يرفلون في رغد الحياة، وقبل هذا وذاك لست ممن يعتاش بقلم ينثال مداده نفاقا.
لكن دعوا بن تونس يا سادة يطرح عليكم في البداية السؤال التالي:
من أين أتى قادة أنصارالله بهذا الإبداع السياسي الذي حير قادة العالم ودهاقنة السياسة؟
أنا لن أحدثكم عن بطولات رجالهم الحربية التي بلغت الخيال والأساطير أمام تحالف أقوى الترسانات العسكرية والخزنات المالية في العالم كله، فالمشاهد المعروضة عبر شاشات التلفاز والانترنيت تقدم نفسها، وإنما سأحدثكم عن البطولات السياسية التي يجترحها قادة أنصار الله بوجه كبار القيادات الدولية وأكثر خبراء السياسة حرفية وبوجه أهم مراكز الدراسات والاستراتيجيات السياسية في العالم، ولتسمحوا لي أن ألفت انتباهكم لجانب واحد وأنموذج مبسط أعتبره كافيا للتدليل على ما أقول، ولكم الحكم في الأخير.
لا أخفيكم أنني حين كنت أتابع الأخبار المتدفقة بغزارة عن عزم دول التحالف على اقتحام مدينة الحديدة كنت قد شعرت أنه سيصعب جدا على قادة أنصارالله دفع المبررات التي يرفعها التحالف بشأن ميناء الحديدة والشائعات التي يطلقها ويروجها بشأن توظيفه من قبل أنصارالله في خدمتهم مالا وعتادا حربيا لا سيما المكنة الصاروخية.
توقعت أن ساسة التحالف تمكنوا من حشر أنصارالله في زاوية لن يسعهم خلالها تنفيذ أي مناورة سياسية، فمن الواضح أن التحالف كان قد حشد كل إمكاناته السياسية لكسب تأييد دولي لمعركة الحديدة مستميتا لتقديم نفسه بالقادر على إحراز انتصارات نوعية وكسر هيبة أنصارالله الذين مرغوا أنفه في التراب.
فكرت واحترت وتساءلت: ماذا يمكن لأنصارالله فعله؟ حتى بدد قائد أنصارالله كل حيرتي بتوجيهه ضربة سياسية كانت القاضية تماما على الهجمة السياسية الشرسة ضد اليمن والحديدة تحديدا، بإعلانه عن القبول بمبادرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن بأن يدار الميناء بإشراف أممي شريطة أن تنفق جميع العائدات الجمركية التي يتم تحصيلها في الميناء وكذلك جميع ما يتم تحصيله في المنافذ اليمنية الأخرى وما يصدره اليمن من ثروته النفطية والغازية في دفع مرتبات جميع موظفي اليمن في كل المحافظات دون تمييز.
لقد كانت ضربة سياسية قاضية بحق، أدخلت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل ونظامي العمالة العربيين السعودي والإماراتي في غيبوبة بلا حراك ترجمت على أرض الميدان بتوقف التقدم العسكري نحو مدينة الحديدة.
انتظرت أياما لسماع خبر يشير إلى أن قادة التحالف قد تمكنوا من توفير رد سياسي على قائد أنصارالله دون جدوى، إذ ظل يراوح المبعوث الأممي بين صنعاء الصمود العربي وعواصم دول التحالف، وهو نفسه كخبير سياسي دولي بدى كمن وقع في معضلة تفوق مقدراته، كيف لا وهو يسمع منطقا عربيا مختلفا، وكيف لا يقع أسيرا للدهشة وهو يرى كل السيناريوهات السرية مكشوفة لدى هذه القيادة العربية الشابة، كيف لا وهو يدرك أن خطط الشطرنج السياسي كلها مفضوحة أمامها؟، بل كيف له أن يخفي مشاعر الفخر بكونه يفاوض قائدا عظيما عز له نظير في عالم اليوم، قائد يدرك أن بلده وشعبه يتعرضان – بالإضافة إلى الحرب العسكرية الأشرس والأكثر عدوانية ووحشية – لحرب اقتصادية أشدّ ضراوةً وفتكا من الحرب العسكرية بكل صورها، والتي قد يبلغ عدد ضحاياها أضعافا مضاعفة مقارنة مما هو الحال عليه في الحرب العسكرية، ومع هذا يظل ثابتا يقدم له دروسا سياسية ويعكس صورة القائد العربي المسلم الحر الشريف الصادق.
قرأت عدة تحليلات أشارت إلى أن أنصارالله قد حصدوا من وراء هذه الحرفية السياسية لقائدهم مزيدا من التأييد الشعبي لهم، بعد أن أدرك معظم اليمنيين بلا أي مواربة أن من يدافع عن مرتباتهم هم أنصارالله فقط، ساعدهم في ذلك الرفض الإماراتي للمبادرة إذ قدم تأكيدا واضحا وضوح شمس برابعة نهار على أن من يمنع تسليم مرتبات الموظفين هو تحالف الحرب على اليمن، وأنه يمارس عقابا جماعيا بحقهم في حرب اقتصادية لا ترحم، غير مكتف بالأعداد المهولة من الضحايا المدنيين التي فاقت أربعين ألفا بين شهيد وجريح، فيهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال، أو بالدمار الهائل والشامل للبنية التحتية والأضرار الفادحة والكبيرة جراء قصفه الهيستيري الذي لم يتوقف يوميا منذ ثلاث سنوات ونصف، فإضافة إلى قصف جميع الموانئ والمطارات فقد رافق هذا العدوان الكوني إغلاق محكم لجميع المنافذ الجوية والبحرية والبرية بما معناه فرض حصار خانق على ما يقارب ثمانية وعشرين مليون نسمة، والذي كان أكثر من نصفهم يعيشون تحت مستوى خط الفقر قبل بداية العدوان والحصار وفق تقارير دولية.
تتسع عيناي ويفغر فوي تلقائيا حين أدرك حجم بؤس قادة هذا التحالف لشعورهم بالعجز أمام هذا القائد اليمني، فرغم كل ذلك لم يبد اليمنيون المظلومون وقائدهم أي إشارة للقبول بالاستسلام أو الخضوع.
وتملكتني الدهشة لأني لم أكن أعلم أن موظفي اليمن محرومون من مرتباتهم لأكثر من سنة ونصف، وتساءلت أي مظلومية تلحق باليمن السعيد وأبنائه الكرام الأعزاء دون أن تتاح أخبارها للناس لتكون في متناول العالم، ودون أن يدونها التاريخ في عصر ذروة ثورة السوشل ميديا وتطبيقات التراسل وتبادل المعطيات والمعلومات!؟.
ودفعتني تساؤلاتي لأفتش عن الإجابات التي يستطيع أعداء اليمن وعملائهم في الرياض تقديمها للشعب اليمني حين يسألهم أين مرتباتنا؟.
وبرغم أني أدرك سلفا حجم خسة الغازي المحتل ودناءة وصفاقة العميل المرتزق إلا أنني لم أكن أتوقع أن يصل بهم اللؤم والكذب إلى تلفيق تهمة حرمان الموظفين من المرتبات إلى أنصارالله، لسببين:
الأول: أن أنصارالله عبر اللجنة الثورية العليا التي كانت تدير شؤون الدولة في اليمن ظلت تصرف المرتبات لكافة موظفي اليمن دون تمييز، وأنه لم يتوقف الصرف إلا بعد أن تم نقل مهام البنك المركزي بصنعاء إلى فرعه في مدينة عدن حيث سلطة حكومة الشرعية المزعومة.
الثاني: أن المعلومات الأكيدة لدي والتي يصرح بها مسئولو الشرعية المدعاة تفيد بأنها تسلم المرتبات بانتقائية عنصرية وفقط لموظفي المناطق التي تم احتلالها في اليمن، حارمة بذلك الغالبية العظمى من الموظفين الذين يتركزون في العاصمة صنعاء والمناطق غير المحتلة – أي التي تقع تحت سيطرة أنصارالله – والتي هي الأكبر من حيث الكثافة السكانية.
لكن ما زاد من حنقي وسخطي على دول التحالف وعملائها هي تلك الحقائق التي كشف عنها محمد علي الحوثي الذي يشغل موقع رئيس اللجنة الثورية العليا وهو من رأس اليمن في إحدى الفترات قبيل العدوان وخلاله، فقد أوضح – قبل أيام – المرات التي لم تفِ فيها حكومة المرتزقة بتعهداتها بتسليم المرتبات مع كل إجراء تتخذه، قائلاً في تغريدات تويترية “تعهدوا بتسليم الرواتب بمجرد موافقة دول مجلس الأمن على نقل البنك، ونقلوه عند المرتزقة ولم يفوا، وتعهدوا بتسليم الرواتب بطباعة العملة بروسيا، ولم يفوا، وبعدها قالوا وديعة سعودية فيها حل سحري للاقتصاد اليمني وتسليم الرواتب، ولم يفوا، واليوم يبحثون عن قرض يمثل خدعة جديدة”.
وبقدر ما هالتني تلك الحقائق – لكونها أسفرت عن وجه أشد قباحة لقادة التحالف ومرتزقتهم الذين لم يكتفوا بامتصاص دماء أطفال ونساء وشيوخ الشعب اليمني العظيم فأخذوا يحتالون عليه ويسرقون قوته بشراهة أنذل اللصوص، دون خجل ودون وازع من ضمير، وأنى لهم ضمير وهم يتناولون أجساد اليمنيين ليلا ونهارا منذ ثلاث سنوات ونصف! – بقدر ما كان الألم يعتصرني على الشعب اليمني الذي يراد أن يعيش اكتمال المعاناة في أبشع صورها بتضييق الخناق أكثر وأكثر لكي يحصل صهاينة العرب على ما لم يحصلوا عليه من خلال ترسانتهم العسكرية الضخمة، فدول تحالف العدوان ومرتزقتها ومن تآمر معها وانضوى تحت لوائها ممن يطلقون على أنفسهم أسماء إنسانية وشعارات برّاقة لم تقف عند هذا الحد، فهي تتابع حربها الاقتصادية وتبتكر كل يوم أساليب جديدة في التلاعب بمشاعر وآلام أبناء هذا الشعب العظيم المظلوم.
هناك – على الرغم من كل هذه التداعيات – من يخفف من هذه الآلام والمعاناة، ومن سوى قادة أنصارالله يفعل؟ فسابقا كانوا يصرفون المرتبات بصورة منتظمة رغم ظروف العدوان والحصار ورغم أن جل الإيرادات كان بيد المرتزقة، واليوم يقفون مدافعين عن الشعب اليمني وعن مرتبات الموظفين، فهذا محمد الحوثي القائد البارز في أنصارالله وبعد كل ما جرى وصار يتحدى دول التحالف ومرتزقتها ويقول “أعيدوا كل الإيرادات التي تحت تصرف المرتزقة إلى البنك المركزي اليمني بصنعاء وأنا أضمن صرف المرتبات”.
اعلموا يا سادة أن هذه القيادات وحدها تقف ضد من يريدون إذلال شعب اليمن وهو أعز الشعوب، وأصل العروبة والعرب، ومهد الحضارات وموئل القيم، شهامة وكرما ونخوة، الشعب الذي ينام على ثروات نفطية معدنية لا يملكها أي بلد في العالم، الشعب الذي يمتلك وطنا له موقع استراتيجي في قلب العالم لا يعادله أهمية أي موقع جغرافي آخر، والذي يمارس أعداؤه بحقه التجويع والإفقار، لا يكتفون بأن معظمه قد صاروا تحت خط الفقر فيضغطون ويضغطون لينزلوه إلى قعر الفقر، بل ويسحقونه ويمزقونه أشلاء ليفارق الحياة.
فتحت جهاز الرائي “التلفاز” باحثا عن أخبار اليمن، اخترت قناة “المسيرة”، وعلى التو غادرني ألمي حين شاهدت وجه قائد أنصارالله السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي رغم كل ذلك شاااامخا، عزييييزا أبيا عنيدا عصيا على الانكسار، لا يبدي أبدا ذلة ولا هوانا ولا قبولا بضيم أو حيف، ثم بدأت نشرة الأخبار لتعلن عن قصف مطار أبوظبي الدولة المعتدية على اليمن من قبل الجيش اليمني واللجان الشعبية اليمنية، لترتسم ابتسامة كبيرة على محياي، فبالأمس ضجت وسائل الإعلام الدولية باسم مطار الحديدة في اليمن، واليوم باسم مطار أبوظبي في الإمارات، فزاد تبسمي وأدركت أني أمام أساتذة السياسة في العصر الراهن، حيث السياسة تعني الوعي، تعني الحق، تعني الصمود، تعني العزة والكرامة، تعني جميع المفردات العظيمة التي سقطت من قواميس الحكام العرب وساستهم، فاحفظوا وانقلوا عني يا سادة أن من يدافع عن مرتب الموظف بهذه القوة حتما يدافع عن وطنه وشعبه بقوة أكبر، وأن قادة أنصارالله يواجهون أعداء اليمن بالسياسة قبل البندقية، وبالوعي قبل الطائرات المسيرة، وبالعلم قبل المنظومات الصاروخية، وقبل هذا وذاك بالثقافة القرآنية، وسيأتي يوم ما يتربعون فيه بجدارة على عرش السياسة الدولية، وكما يقول بيت الشعر الشهير لطرفة بن العبد:
ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً * ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ
وأدعو لكم ربي يعيشكم شعب اليمن الباهي ويحفظ قادتكم.
نخليكم على خير وبسلامة.
Discussion about this post