١٢/٠٢/٢٠٢٣, ٩:٢٧ م
متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية لـ”مهر”:أمريكا حريصة على إطالة الصراع حتى آخر مواطن أوروبي/ ايران أول من رفع صرخة “لا” بوجه اليانكي الأمريكي
قال الباحث السوري المتخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية، د.حسن أحمد حسن، ان إنهاك وإضعافها اوروبا مطلوب جداً أمريكياً شأنها شأن روسيا والصين، فأمريكا ليست فقط مستعدة لاستمرار القتال حتى آخر جندي أوكراني، بل هي حريصة على إطالة الصراع حتى آخر مواطن أوروبي.
وكالة مهر للأنباء – القسم الدولي: بدأ الناتو في بداية القرن الواحد والعشرين بتعزيز قدراته العسكرية في وسط وشرقي أوروبا، واستمر في توسّعه إلى أن وصل إلى الحدود الروسية، فيما كان موقف الحلف ثابت لم يتغير بشأن التمدّد والتوسّع… وترى روسيا ان الخطوات التطبيقية للناتو من خلال التمدّد نحو الشرق، ما هو الا مشروع للولايات المتحدة لكي تُضعف روسيا وتُنهك اوروبا معاً عبر ادخال كافة الاطراف في صراع مسلح طويل الامد، لذلك واشنطن تُنفّذ مخططات جيواستراتيجية في دول أوروبا الشرقية من خلال استغلال الدول الاوروبية… فامريكا اليوم مستعدة لتوريط اوروبا بحرب اخرى، سيما انه لا يوجد لديها قراراً سيادياً مستقلاً، فالقرار الاوروبي المستقل تم طيه.
وفي هذا الصدد أجرت مراسلة وكالة مهر للأنباء، “وردة سعد” حواراً صحفياً مع الباحث السوري المتخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية الدكتور “حسن أحمد حسن”، وأتى نص الحوار على الشكل التالي:
** عندما قامت روسيا بعمليتها الخاصة في أوكرانيا كان الاعتقاد بأنها ستكون عملية محدودة زمنيا وبحجم القوة المستخدمة فيها… لكن التطورات واستمرار المعارك لم تؤيدا هذا الاعتقاد! فلماذا برأيكم؟
هناك عوامل عدة ساهمت بتعميم تصور أولي بأن العملية ستكون محدودة وقصيرة، وأن وسائط الصراع المستخدمة ستكون بحدود ضيقة، لكني شخصياً كنت متيقناً منذ لحظة الإعلان الرسمي الروسي عن بدء “العملية الخاصة” أن تلك العملية ستمتد وتشتد في الزمان وحدة الاشتباك ومستوياته، لأن مسببات الحالة قائمة وغير تقليدية، ومن السذاجة وضع تصور مقنع لزوال الأسباب، وهذا يعني الاستمرارية، فتغير المخرجات مرهون إما بتغير المدخلات أو بتعديلات حتمية تتم داخل فرن الصهر، وما يحدث على الجغرافيا الأوكرانية يؤكد أن المدخلات تساهم بتأزم الأوضاع وامتدادها زمانياً ومكانياً، مع ازدياد سخونة المخرجات، وهذا كفيل بترك الباب مفتوحاً على المجهول، أو على سيناريوهات متعددة وأكثر من خطيرة، ويمكن باختصار ذكر أهم العوامل التي ساهمت بتشكل تصور أولي غير صحيح، ومنها:
التضليل الاستراتيجي الذي مارسه الغرب بقيادة واشنطن لإخفاء الأخطار والتهديدات التي تواجه الأمن القومي الروسي جراء زحف الناتو شرقاً، ووصوله إلى الحديقة الخلفية لروسيا الاتحادية، كان من أهم العوامل التي ساهمت بتشكل تصور أولي غير صحيح
أ ـ الموقف الروسي المعلن الذي أكد أن الهدف من العملية حماية المواطنين الروس في إقليم دونباس، وهذا لا يعني خوض حرب ضد أوكرانيا أو الناتو، وحجم القوات التي تم حشدها بداية لتنفيذ هكذا هدف منسجم مع ما تم الإعلان عنه.
ب ـ التضليل الاستراتيجي الذي مارسه الغرب بقيادة واشنطن لإخفاء الأخطار والتهديدات التي تواجه الأمن القومي الروسي جراء زحف الناتو شرقاً، ووصوله إلى الحديقة الخلفية لروسيا الاتحادية.
ج ـ خصوصية شخصية الرئيس فلاديمير بوتين المسكونة بالعظمة الروسية التي كادت تتلاشى منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أن بدأت روسيا تتعافى تدريجياً وتستعيد بعض أوراق قوتها في العقد الأول من هذا القرن.
د ـ نجاح الإعلام الروسي بتعميم فكرة أن روسيا لم تدخل الحرب لتخسر، وليس أمامها إلا الانتصار وتحقيق الأهداف التي تم الإعلان عنها، ومساهمة الإعلام الغربي في انتشار هذه الفكرة لدفع روسيا للغرق أكثر فأكثر في الجغرافيا الأوكرانية.
هـ ـ الغطرسة الأمريكية المنفلتة من كل عقال، والعربدة التي وفرتها الأحادية القطبية، وما يترتب على ذلك من استبعاد إمكانية تفكير أي قوة بتحدي جنون العظمة الأمريكية.
و ـ التصور العام المسبق بأن الدخول الروسي إلى الجغرافيا الأوكرانية يعني مواجهة مفتوحة مع حلف الناتو، وأنه لا طاقة لدى روسيا للتفكير بهكذا مغامرة ومقامرة.
** الإعلام الغربي يروج لفرضية أن تتحول أوكرانيا إلى أفغانستان روسيا، وأن تتمكن دولة عادية من هزيمة دولة كبرى وإحراجها… هل تتوقع ذلك؟ وهل من فرضيات جديدة للحروب الحديثة تعزز دور الإرادة الشعبية على حساب الترسانات العسكرية؟
الإعلام الغربي جزء من الحرب والموجهة المفتوحة التي تقودها واشنطن سواء ضد روسيا أم في أية مواجهة أخرى، والحرب كمصطلح أوسع وأشمل من مصطلح الصراع المسلح، وأحد أوجه الحرب، وقد يكون أخطرها “الحرب على الوعي” والحرب على القناعات والأفكار، ولا يستطيع باحث منصف أن ينكر الخبرات الأطلسية الكبيرة المتراكمة في هذا المجال، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الباحث المنصف أن ينكر الحصانة التي يمتلكها الروس ضد هكذا أشكال من الحرب على الوعي، وهذا يدفعني للتمييز بين أمرين غير مترابطين فيما يروجه الإعلام الغربي… فـ”تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان روسيا” أمر أصبح واقعاً لا يمكن نكرانه، وإلا ماذا يعني استمرار “العملية الخاصة” منذ 24/2/2022م. حتى الآن؟.
أما ما يتعلق بتمكن دولة عادية من هزيمة دولة كبرى وإحراجها فهذا أقرب إلى الأمنيات الأطلسية منه إلى الواقع، وحتى في الغرب الأطلسي يدركون أن هزيمة روسيا في أوكرانيا عبر مواجهة مفتوحة ليست خياراً يمكن البناء عليه، وقد أعلنت موسكو بوضوح أن المواجهة ليست مع أوكرانيا، وإنما مع الناتو ومن يدور في فلكه، وهذا يعني أن جميع الخيارات الأسوأ مفتوحة وعلى الطاولة بما في ذلك استخدام السلاح النووي حيث تتفوق روسيا بقدراتها النووية على دول الناتو مجتمعة، مما يجعل من سيناريو هزيمة روسيا خارج الحسابات… وفي ظل هذا الاستعصاء المزمن وغير القابل لإيجاد مخارج مقنعة للأطراف الفاعلة يصبح السيناريو الأكثر قابلية للتحقق والتفعيل هو سيناريو إحراق أوكرانيا تدريجياً، وإطالة أمد الصراع أطول فترة ممكنة لاستنزاف أكبر قدر ممكن من القدرات الروسية العسكرية والبشرية والاقتصادية، وحتى هذا السيناريو غير مضمون الوصول إلى نهاية واضحة أو شبه أكيدة، لأن مجريات الأعمال القتالية قد تتبدل، وقد يفرض أي تغيير جوهري طارئ إعادة خلط الأوراق والانتقال إلى السيناريو الأخطر أي النووي، ولروس لا يخفون ذلك، بل هذا ما صرح به بوتين شخصياً موضحاً أن روسيا لن تكون من يوجه الضربة النووية الجوابية، بل الضربة الأولى عندما يتحتم عليها ذلك.
ليس هناك من استطلاعات رأي تؤكد أن الإرادة الشعبية الأوكرانية منسجمة مع توجهات نظام كييف بزعامة زيلينسكي، بل العكس تماماً، فالتأثير الروسي في الداخل الأوكراني لا يستهان به
أما موضوع فرضيات جديدة للحروب الحديثة تعزز دور الإرادة الشعبية على حساب الترسانات العسكرية، فبكل تأكيد الإرادة الشعبية أقوى من كل ترسانات الأسلحة مهما بلغت طاقتها التدميرية، ودروس التاريخ وعظاته القديم منها والحديث يؤكد أن الإرادة الشعبية إذا توفرت له قيادة كفوءة ومعبرة عن تلك الإرادة فالنصر حليفها لا محال، وما الهزائم التي لحقت بالولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام وغيرها إلا الشاهد الدامغ على صحة هذه المقولة، ولعل الأنموذج الأسطع في القرن الحالي انتصار حزب لله في حرب تموز وآب 2006م. على آلة القتل والتدمير الصهيونية على الرغم من وقوف غالبية الدول الفاعلة والمؤثرة إقليمياً ودولياً مع حكام تل أبيب، ومع ذلك توسل أولئك لأمريكا لاستصدار القرار 1701 لوقف الأعمال القتالية، لكن قد يكون الحديث عن الإرادة الشعبية الجامعة والقيادة الوفية الصادقة مع جمهورها والمعبرة عن إرادة شعبية حقيقية لا ينطبق على أوكرانيا، وليس هناك من استطلاعات رأي تؤكد أن الإرادة الشعبية الأوكرانية منسجمة مع توجهات نظام كييف بزعامة زيلينسكي، بل العكس تماماً، فالتأثير الروسي في الداخل الأوكراني لا يستهان به، وقد يكون للمزاج الشعبي الأوكراني المنقسم على نفسه دور لا يجوز إسقاطه من الحسابات، وهذا يساعد روسيا في خوض الأعمال القتالية في المرحلة لقادمة، أو يقلل من حجم خسائرها بشكل أو بآخر على الأقل.
** من الذي وقع في سوء التقدير في حساب مآلات الحرب في أوكرانيا برأيكم؛ روسيا ام أميركا؟ ولمصلحة من يلعب دور الوقت وإطالة أمد المعارك؟
الجواب الموضوعي المباشر على هذا السؤال غير ممكن لأن أفق الصراع ما يزال مجهولاً وغير معروف النتيجة، وهذا يعني أن كلا الجانبين أخطأ التقدير، فالروس منذ البداية أعلنوها عملية خاصة ثم تبين أنها أكبر بكثير من أكبر عملية خاصة، ولا يجوز التقليل من حجم الخسائر التي تكبدتها موسكو منذ انطلاق شرارة الأعمال القتالية وحتى تاريخه، وأمريكا التي أرادت تحويل الحدود الأوكرانية إلى خطوط اشتباك متقدمة لحصر موسكو والتضييق عليها أكثر فأكثر لم تكن تتوقع أن يكون رد الفعل الروسي بهذا المستوى، والنتيجة إعلان أربعة مناطق في إقليم دونباس الانضمام رسمياً إلى روسيا الاتحادية، وهذا يعني تمدد روسيا وليس انكماشها وحصارها أكثر فأكثر داخل حدودها تمهيداً لتعريض أمنها القومي برمته للأخطار والتهديدات.
إطالة وقت الصراع لا تقتصر دلالاته وتأثيراته على إمكانية استنزاف روسيا فقط، وإنما استنزاف روسيا وكل أوربا الناتوية
يبقى الحكم على سوء التقدير من حسنه مرهوناً بالنتيجة النهائية للحرب المفتوحة، والتي يبدو أنها طويلة الأجل، فإذ تمكنت روسيا من تحقيق الأهداف التي أعلنتها مع بداية الأعمال القتالية يكون التقدير الأمريكي خاطئاً، أما إذا غرقت روسيا في الجغرافيا الأوكرانية باستنزاف متواصل وغير مسقوف الزمن فهذا يعني خطأ التقدير الروسي، وهذا يقودنا للإجابة على القسم الأخير من السؤال المتضمن: لمصلحة من يلعب دور الوقت وإطالة أمد المعارك؟… فطالما أن أمريكا تحارب بالآخر فإطالة أمد هذه الحرب مصلحة أمريكية صرفة، وهي تتناقض بالمطلق مع المصالح الروسية، لأن إطالة وقت الصراع لا تقتصر دلالاته وتأثيراته على إمكانية استنزاف روسيا فقط، وإنما استنزاف روسيا وكل أوربا الناتوية، وهذا بدوره يعني أن تصبح أوربا أكثر انبطاحاً وأكثر تبعية وأسهل انقياداً لأمريكا، وهذا ما يجب أن يعيه الأوربيون جيداً، فأمريكا ليست فقط ـ كما قال المسؤولون الروس ـ مستعدة لاستمرار القتال حتى آخر جندي أوكراني، بل هي حريصة ـ كما أرى ـ على إطالة الصراع حتى آخر مواطن أوربي.
** الحروب هي التعبير عن انسداد أفق السياسة أو الحلول السياسية كما يقال… فما هي القراءة الإستراتيجية لهذه الحرب، من منظور الدولتين الأساسيتين فيها؛ أميركا وروسيا؟ وما الذي تريده روسيا خصوصا من هذه الحرب؛ التوسع الجغرافي أم خارطة سياسية جديدة للعالم؟
نعم الحرب كما قال القائد المشهور كلاوزفيتز هي: “امتداد للسياسة بوسائل أخرى” وقد تنشب الحرب من قبل أن تصل السياسة إلى أفق مسدود، فعندما تكون تكلفة استمرار وضع ما أقل خطراً من نشوب الحرب فمن الطبيعي أن يكون التوقع مرجحاً للانتقال إلى الحرب التي قد تكون ـ ليس فقط أقل تكلفة، وإنما ـ أكثر مردودية أيضاً، وهذا ما ينطبق بدقة على ما يجري على الساحة الأوكرانية، فلو لم تقدم روسيا على خطوتها لكانت اليوم في انكماش متدرج ومتدحرج، ولكان الأمن القومي الروسي برمته عرضة للعديد من السيناريوهات المتوزعة بين السيئ والأسوأ، ويدرك المتابع المهتم أن روسيا كانت على امتداد سنوات تسعى لدفع النظام الحاكم في كييف بعد الانقلاب في شباط 2014م لتنفيذ ما تضمنته اتفاقية منسك 2014م واتفاقية منسك2 الموقعة في شباط 2015م لكن النتائج كانت مزيداً من العدوانية ضد المواطنين الروس في إقليم دونباس، ومزيداً من الانجراف في فلك السياسة الأمريكية لساعية لتحجيم روسيا وتهميش فاعلية دورها، والعمل على محاصرتها بكل السبل وتقدم الناتو شرقاً، بما يهدد الأمن القومي الروسي، الأمر الذي يعني توفير البيئة المطلوبة لتنفيذ الإستراتيجية المتضمنة أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً صرفاً، وهذا يتناقض جملة وتفصيلاً مع المصالح القومية العليا لروسيا الاتحادية.
روسيا ترى أن “العملية الخاصة” التي بدأتها ستلزم واشنطن على إعادة الحسابات، وهذا يعني توفير البيئة المطلوبة لإعادة صياغة النظام العالمي وفق أسس جديدة لا مكان فيها للأحادية القطبية
بالمقابل كانت واشنطن تنظر إلى الانقلاب الذي أقصى أصدقاء روسيا من السلطة فرصة ذهبية يجب الاستثمار بها، ومن المسلم به أن يسعى حكام كييف الجدد إلى المظلة الأمريكية، ويناصبوا العداء روسيا، ويعملوا على اجتثاث كل ما له علاقة بالروس، بل وصل بهم الأمر إلى تكرار الاعتداءات الممنهجة على سكان إقليم دونباس من أصول روسية، وهذا يمهد ويساعد على إمكانية امتداد الناتو وتوسعه شرقاً على حسب الأمن القومي الروسي، وباختصار شديد يمكن القول: عملت واشنطن بكل ما تستطيع للوصول إلى ما وصلت إليه الأوضاع في أوكرانيا، انطلاقاً من القناعة بأن اللوحة المتشكلة تعني تآكل قدرات روسيا، وإغراقها في المستنقع الأوكراني، وبالتالي تزول إمكانية صعود قطب مكافئ، وتستمر الأحادية القطبية وتفرد واشنطن بمفاصل صنع القرار الدولي، في حين رأت روسيا أن “العملية الخاصة” التي بدأتها ستلزم واشنطن على إعادة الحسابات، وستمنع دول الغرب الأطلسي من تهديد روسيا في مجالها الحيوي جيوبوليتيكياً، وهذا يعني توفير البيئة المطلوبة لإعادة صياغة النظام العالمي وفق أسس جديدة لا مكان فيها للأحادية القطبية، أي أن الهدف الروسي الحقيقي أبعد بكثير من ضم مساحات جغرافية جديدة إلى روسيا الاتحادية لأنها بالأساس أكبر دولة مساحة في العالم، وما يهم موسكو ليس البعد لجغرافي بل المجال الجيوبولتيكي بما يتناسب وتوازن القوى غير التقليدية، وهذا يعني إعادة رسم الخارطة السياسية للعالم.
** أوروبا هي الضحية الثانية لهذه الحرب على الأراضي الأوكرانية بعد الشعب والدولة في أوكرانيا… هل ترى أن أوروبا ذات مصلحة في هذه الحرب أولا؟ وهل تستطيع أن تواصل دعمها والتورط فيها إذا ما تجاوزت الحدود الأوكرانية؟
قد يكون إضعاف أوربا وإنهاكها أحد أسباب الجوهرية التي بيَّتتها واشنطن من خلال التمهيد للوصول إلى هذه الحرب، وقد تكون أوربا مستهدفة أمريكياً أكثر من أوكرانيا، ولتوضيح هذه الفكرة أتوقف عند بعض الجوانب التي أراها مهمة، ومنها:
ما تريده أمريكا من أوكرانيا ينفذ بحذافيره قبل بدء الأعمال القتالية هناك بسنوات، ولا تشكل أوكرانيا أي تهديد للهيبة والنفوذ الأمريكي لا الآن ولا مستقبلاً، وبالتالي هي تستخدم كحجر شطرنج لتحقيق أهداف أبعد وأثمن.التفرد بالقرار الدولي وضمان استمرار الأحادية القطبية يعني إضعاف الأطراف المرشحة لتكون شريكة في القرار في حال تم الانتقال من الأحادية القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، وهذا ما يكثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة، وأوربا أحد الأطراف المحتملة، ولذا فإن إنهاكها وإضعافها مطلوب جداً أمريكياً شأنها شأن روسيا والصين.منذ مشروع مارشال أوائل خمسينات القرن الماضي والقرار الأوربي تابع لواشنطن ويدور في فلكها، ومع تراجع قدرة أمريكا على الاستمرار بتشديد قبضتها بالتزامن مع صعود نجم الصين اقتصادياً ومناكفة روسيا واستعراض عضلاتها عسكرياً تزداد إمكانية تفكير أوربا بشق عصا الطاعة الأمريكية، ومع تفجير الوضع في أوكرانيا وتوريط أوربا تضمن واشنطن وفق الحسابات الموضوعية إنهاك أوربا وروسيا بآن معاً إذا بقيت تداعيات الحرب مضبوطة الإيقاع، أي ضمان عدم دفع روسيا لاستخدام السلاح النووي.
استناداً لما تقدم يمكن القول: إنه لا مصلحة قط لأوربا في الانخراط بالحرب ضد روسيا كرمى لعيون المايسترو الأمريكي، وحقيقة من غير المفهوم منطقياً هذا الانقياد الأوربي الأعمى للقرار الأمريكي، والمواطن الأوربي على يقين أن الفرد الأمريكي لن يعاني من نقص التدفئة، ولا من تعثر عجلة الصناعة والاقتصاد جراء قطع النفط والغاز الروسي، بل الأوربيون هم الذين يعانون وستزداد هذه المعاناة مع استمرار أمد هذه الحرب المفتوحة على المجهول.
أما موضوع تجاوز الحرب الدائرة للحدود الأوكرانية فمن المبكر جداً الحديث عنه، والمهم أن أوربا متضررة كأوكرانيا من الوضع القائم، وهذا يريح واشنطن وينسجم مع سياستها اللأخلاقية التي لا تعترف بشركاء ولا حلفاء، بل بتابعين وأصحاب أدوار وظيفية محددة تنتهي صلاحية أصحابها بانتهاء صلاحية تلك الأدوار، وهذا ما دفعني للقول أكثر من مرة وعبر أكثر من شاشة ومنصة إعلامية: إن واشنطن مستعدة لدعم الحرب على الجغرافيا الأوكرانية حتى آخر مواطن أوربي.
** لم يؤد انشغال أميركا وأوروبا في ورطتهما في أوكرانيا إلى تخفيف الضغط على إيران، بل على العكس نلاحظ أن الاستفزازات والاعتداءات على الجمهورية الإسلامية زادت من قبل كيان الاحتلال وأوروبا معا، ودائما برضا ومشاركة من واشنطن.. لماذا؟ وأين إيران من هذا الصراع؟
عندما يتعلق الأمر بأمريكا فالحديث يدور عن إمبراطورية الشر المطلق، وطالما هي كذلك فلا يتوقع العاقل منها إلا التسبب بالكوارث والويلات والحروب والدمار وإثارة القلاقل والفتن وتنغيص حياة البشر، ومحاولة تشييئ إنسانية الإنسان، وللإنصاف هم أساتذة لا نظير لهم في كل هذه العناوين المتناقضة مع كل ما له علاقة بالقانون الدولي وأعراف المجتمع الإنساني وقيمه ومثله العليا، وعندما يتعلق الأمر بإيران الثورة فالحديث يدور عن أول من رفع صرخة “لا” بوجه اليانكي الأمريكي، وأول من قال لحكام واشنطن: نحن لا نخشاكم، ولا ننصاع لأوامركم، وأول من واجهت الأمريكيين بشكل مباشر وغير مباشر، ودعمت بقية أطراف محور لمقاومة وحركاتها التي أزعجت الأمريكي وربيبته الكيان الغاصب الإسرائيلي…
عندما يتعلق الأمر بـ”إيران الثورة” فالحديث يدور عن أول من رفع صرخة “لا” بوجه اليانكي الأمريكي، وأول من قال لحكام واشنطن “لا نخشاكم”، وأول من واجه الأمريكيين بشكل مباشر وغير مباشر
وانطلاقاً مما ذكر يصبح السؤل الأكثر إلحاحاً: هل يمكن أن تفكر أمريكا بتخفيف الضغط عن إيران جراء انشغالها بملفات كبرى ساخنة؟… والجواب البدهي واليقيني “لا” لا يمكن أن يحدث ذلك قط، ولا يمكن للإدارات الأمريكية أن تغفر لطهران التسبب بتآكل الهيمنة الأمريكية، وإذا حدث وأقدمت هذه الإدارة أو تلك على أي فعل يوحي بتخفيف الضغط فلا يجوز فهم ذلك إلا على أنه سلوك تكتيكي اضطرت واشنطن لاعتماده في سبيل الحفاظ على روافع سياستها العدائية تجاه إيران بخاصة، وبقية أطراف محور المقاومة بعامة.
انشغال أمريكا بأوكرانيا وغيرها من الملفات يزيد من حقد حكومة الظل العالمية على طهران لأنها تقف حجر عثرة في طريق كل مشاريعهم الشريرة في المنطقة وخارجها، كما أن التناغم الروسي ـ الإيراني والصيني ـ الإيراني والإصرار على التعامل الندي مع الجميع يشكل كابوساً يومياً مستمراً ومتزايداً يصدّع أصحاب الرؤوس الحامية في واشنطن ولندن وتل أبيب وغيرها من أوكار الشر ومواخير استهداف قيم الحق والخير والإنسانية، ويضاف إلى كل ما ذكر العجز عن إحداث أي اختراق في جدران الصلابة الإيرانية، والإخفاق في تحريك الداخل الإيراني ضد دولته، ونجاح طهران في امتصاص كل ما تم تجهيزه واشتركت في حياكته أجهزة استخبارات وامبرطوريات مالية وإعلامية وغرف عمليات قوى إقليمية ودولية كبرى، وإفراغ كل ما تم الاشتغال عليه من أية إمكانية لإحداث اهتزاز نوعي في الداخل الإيراني، إلى جانب إخفاق واشنطن وبقية العواصم الأوربية في دفع إيران للتخلي عن حقها السيادي في امتلاك التقانة النووية.
النقطة الأخيرة التي أود الإشارة إليها في هذا الجانب تتعلق بإيران نفسها التي لا تخفي ثوابتها، وتنادي وتعمل جهراً على إخراج أمريكا من المنطقة لأنها شر مطلق، كما تدعو لاقتلاع البؤرة الاستيطانية المزروعة قسراً على التراب الفلسطيني، ولو أن إيران اليوم تجنح لتخفيف هذا الخطاب ـ وليس لإلغائه ـ لرأينا العواصم التي تهاجم طهران على مدار الساعة تتسابق في الحج إليها…
ليتصور أي متابع لو أن إيران أعلنت أنها ليست فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، وإنها فقط تبارك ما يتفق عليه الفلسطينيون لحل قضيتهم، أو لن تقف في طريق تصفية القضية الفلسطينية طالما أن كل الإجراءات تتم برضا فلسطيني فأية لوحة جيوبولتيكية ستظهر في المنطقة؟… بكل تأكيد عندها ستُطْلَقُ يدُ إيران لتكون المتحكم بشؤون جميع دول المنطقة التي تناصبها العداء اليوم، وسيسارع حكام تلك الدول للتمسح بأعتاب المرجعية الإيرانية، ويتسابقون للانبطاح وإعلان التوبة واستجداء الصفح من طهران، لكن هيهات لهم ولأسيادهم أن تغير الجمهورية الإسلامية الإيرانية ثوابتها، وهيهات لواشنطن وكل ما تمتلكه من سطوة ونفوذ أن تستطيع دفع طهران لتنفيذ أي شيء لا ينسجم ومصالح محور المقاومة الذي يفتخر بتكسير أنياب الوحوش والضباع الأمريكية والصهيونية، وستبقى طهران قبلة جميع الشرفاء والأحرار في الإنسانية جمعاء رغم أنوف طواغيت الكون.
** لا بد من قراءة انعكاس هذه الحرب على منطقتنا الشرق أوسطية وهي تجري على تخومنا.. فهل ستتمكن أميركا من إبقاء قضايانا المصيرية في ثلاجة الحلول ريثما تنهي حروبها العالمية؟ وهل ستهمش هذه الحرب قضية الفلسطين كما فعلت حركات الربيع العربي؟
باختصار شديد وبمنتهى الوضوح هذا لا يتعلق بأمريكا وقدراتها، بل يتوقف على إرادة المتضررين من العدوانية الأمريكية وتغول التوحش الأمريكي الذي يهدد الجميع دونما استثناء بمن في ذلك الحلفاء والأتباع، وحقيقة الأمر الخبرات الأمريكية كبيرة في تقسيم الجبهات والعمل على الاستفراد بكل طرف على حدة، وهذا ما يدركه الجميع، لكن ولأسباب لا أريد شخصياً أن أتفهمها نجد أن الصين تصرح بأن أمريكا ستتوجه لاستهدافها فور الانتهاء من المواجهة مع روسيا، ومع ذلك لا يلمس المتابع أي تحرك ملموس ويمكن البناء عليه لتوحيد الجهود وتنسيقها والزج بها في مواجهة الخطر المشترك الذي يهدد بكين وموسكو بآن معاً…
إغضاب أمريكا أقل تكلفة من إرضائها في جميع الأحول
ومن يظن أن أمريكا اليوم وحش بلا أنياب عليه أن يعيد قراءته، فهي ما تزال الجبروت العسكري والاقتصادي الأكبر في العالم، ولديها من القدرات التدميرية وأساليب الأذى والتدخل في الشؤون الداخلية الكثير مما يقلق جميع الدول، وهذا لا يعني أنها قدر لا يمكن مواجهته، بل ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمكن مواجهتها وإلحاق الهزيمة بها انطلاقاً من ثنائية التكلفة والمردودية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالخسائر البشرية، وإغضاب أمريكا أقل تكلفة من إرضائها في جميع الأحول، وهذا يعني أننا نتحمل جزءاً من المسؤولية عن وضع قضايانا في الثلاجة، مع اليقين بأن واشنطن لن تعدم الوسيلة لتدوير الزوايا في أي وقت تقترب فيه الأوضاع من حافة الهاوية، ويضاف إلى ذلك الحقد المتراكم والمتزايد القابع في عقول وصدور وقناعات المسؤولين الأمريكيين على محور المقاومة والتربص بأي طرف من أطراف المحور لإبادته إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض النقاط التي قد تساعد على فهم الوضع وتوضيح الصورة، ومنها:
الهيبة الأمريكية تتآكل بشكل ملحوظ بعد أن ثبت العجز عن تحقيق الأهداف التي أعلنوها بتفتيت سورية وتشظيتها، والفضل الأول لتصدع الجبروت الأمريكي يعود لمحور المقاومة
منذ تعثر الحرب بالإرهاب على سورية، والهيبة الأمريكية تتآكل بشكل ملحوظ بعد أن ثبت العجز عن تحقيق الأهداف التي أعلنوها بتفتيت سورية وتشظيتها، وتلا ذلك اضطرار واشنطن للتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني في 14/7/2015م. وبعد ذلك بحوالي شهرين ونصف كان الدخول العسكري الروسي المباشر في الحرب ضد الإرهاب على الجغرافيا السورية بعد اليقين بإمكانية البناء على صمود سورية ومحور المقاومة، أي أن الفضل الأول لتصدع الجبروت الأمريكي يعود لمحور المقاومة.المشاركة الروسية في الحرب على الجغرافيا السورية ساهمت بتحقيق إنجازات ميدانية نوعية، وتسارع انهيار داعش وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة التي ادعت أمريكا أن القضاء عليها قد يحتاج لثلاثين عاماً، فتضاعفت أوراق القوة الروسية مقابل انحسار واضح في النفوذ الأمريكي، وازداد المحور المقاوم يقيناً بإمكانية دفع واشنطن للتعامل بطريقة أخرى.في السنوات اللاحقة تضمنت الإستراتيجية الأمريكية المعلنة تحديد الصين اقتصادياً وروسيا عسكرياً كتحديات فعلية تواجه النفوذ الأمريكي، وهذا يعني إمكانية ظهور قطب مكافئ، الأمر الذي لا تستطيع الإدارات الأمريكية تحمله جمهورية كانت أم ديمقراطية، واصطفاف محور المقومة في الجهة المناوئة لواشنطن وأتباعها يعطي رجحاناً لكفة موسكو ـ بكين، وبالتالي يمهد بالقول والفعل لطي صفحة الأحادية القطبية.الفكرة السابقة تقود إلى أهمية التنسيق مع الحلفاء الأقوياء، وإنْ تضمَّنَ ذلك المزيد من الوجع والضغط على أطراف محور المقاومة، فالحروب تقاس بنتائجها النهائية وليس بالمعارك بين الحروب.
أما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية فالموضوع شائك ومعقد، وكلما قلت التناقضات الداخلية بين المكونات الفلسطينية الفاعلة كلما أعطوا أصدقاءهم ومحبي فلسطين إمكانية أكبر لدعم القضية الفلسطينية والعكس صحيح، وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما يجري في أوكرانيا أثبت أن اصطفاف الكيان الصهيوني ليس على الجهة الروسية، ومع ذلك لم تتأثر العلاقات الروسية الإسرائيلية سلباً، وهذا يتطلب إفراد لقاءات خاصة وأبحاث مستقلة لتوضيح ما خفي في الزوايا، وقد يبقى مجهولاً./انتهى/
Discussion about this post