ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الباقر(ع)، هذا الإمام الذي مرت علينا ذكرى وفاته في السابع من هذا الشهر شهر ذي الحجة، عندما قال لأحد أصحابه؛ وهو خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي: “يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا (أي من يلتزمون أمرنا) السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيهم جنازة ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فان لقيا بعضهم بعضا حياة لأمرنا… يا خيثمة أبلغ موالينا أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع، وإن أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره”.
أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا التي تدعونا إلى التكافل والتعاون، وأن يسند بعضنا بعضاً، ويقوي بعضنا بعضاً، ويشد بعضنا أزر بعض على الحق، وأن نكون الورعين وأن نصدق في الالتزام بالعدل ولا ندعو إلى ما يخالفه بأعمالنا وسلوكنا ومواقفنا.
وبذلك نخلص لهذا الإمام عملاً لا قولاً ونكون أكثر مسؤولية وعدلاً وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…
والبداية من تفاقم الأعباء التي باتت تطاول اللبنانيين على الصعيد المعيشي والحياتي والتي كان آخرها البدء بالعمل بتعرفة الاتصالات الجديدة، والتي ستضاف إلى الأعباء المتزايدة التي تثقل كاهل اللبنانيين في سعيهم لتأمين الغذاء والكهرباء والماء والدواء وكلفة الاستشفاء والنقل، في وقت تستمر أزمة توفير الطحين والخبز والتي كشفت عن مدى جشع بعض من يفترض أن يكونوا أكثر رحمة وأمناء على لقمة عيش الناس وحاجاتهم، وفي الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي الذي وصلت تداعياته إلى المطار، واجهة لبنان في موسم قدوم المغتربين والمصطافين.
يأتي كل ذلك من دون أن تقوم الدولة المعنية بمواطنيها بأية إجراءات لتوفير حاجات اللبنانيين وتوقف النزف الذي بات يطاول مقدراتهم ومدخراتهم حتى لم يبق أمام الناس من مخرج إلا أن يقلعوا أشواكهم بأظافرهم من خلال قدراتهم الذاتية إن توافرت أو من خلال المساعدات التي تأتيهم من أفراد ومؤسسات وجمعيات أو أحزاب من الداخل أو من المغتربين من الخارج.
وهنا نقدر عالياً هذا التكافل والتعاون بين اللبنانيين والذي نأمل أن يستمر ويتزايد، وإن كنا لا نرى ذلك حلاً بقدر ما هو يساهم بتخفيف وقع الأزمة عليهم وجعلهم وإن بصعوبة بالغة قادرين على الاستمرار في هذا البلد. فالحل سيبقى في قيام الدولة بالدور المطلوب منها على الصعيد التشريعي والقضائي والاقتصادي وفي تفعيل إداراتها ومؤسساتها…
إننا ما زلنا نرى أن الدولة ليست فقيرة وهي قادرة على القيام بأعبائها وشؤون مواطنيها إن قرر من يتولونها أن يخرجوا من حساباتهم الخاصة ومن مصالحهم الفئوية ومن الخطوط الحمراء التي توضع أمام أية محاولات جدية لإصلاح ما فسد، وسد منافذ الهدر وسوء الإدارة وبسط سلطة القضاء لاستعادة الأموال المنهوبة من الداخل والخارج وفي كف أيدي من لا يملكون الكفاءة، وفي استثمار موارد الدولة ومرافقها وإزالة العقبات التي تقف أمام اقتصاد منتج، وأن لا يقتصر الرهان لديهم كما نرى على استجداء القروض أو المساعدات من الخارج، والتي من الواضح أنها قد لا تأتي وإن أتت فبشروط قد لا تتوافق مع مصالح اللبنانيين.
إن من المؤسف أن من يتولون إدارة شؤون الدولة لا يزالون يتعاملون مع كل هذا الواقع المزري والمأساوي بالبرودة وعدم المبالاة التي اعتدناها، وبالعقلية نفسها التي أوصلت البلد إلى المنحدر الذي وصل إليه، وكأن البلد ليس بلدهم والناس ليسوا ناسهم وليسوا هم من أودعوهم مواقعهم.
إننا أمام هذا الواقع، لن نقع في اليأس ولا ندعو إليه، سنبقى نراهن على من لا يزال لديهم حس المسؤولية تجاه هذا الوطن ويخلصون له، سنراهن على الناس الذين ندعوهم إلى أن يبقى صوتهم عالياً في وجه من لا يقومون بمسؤوليتهم اتجاههم أن لا يكتفوا بالتأفف والتضجر من واقعهم والغضب في داخلهم حتى لا يقال إن اللبنانيين هم أكثر الشعوب غضباً والأقل تعبيراً وفعلاً لتغيير واقعهم…
ونحن في هذا الإطار، نجدد الدعوة إلى الإسراع في تشكيل الحكومة التي بات يكثر الحديث أن من الصعب تأليفها، حيث لا يمكن أن تعالج أزمات البلد بدون حكومة فاعلة قادرة على النهوض بأعباء هذه المرحلة ومتطلباتها.
ولذلك نقول للمسؤولين: اختصروا المسافات وأخرجوا من أنانياتكم ومن حساباتكم الخاصة والفئوية ومن محاصصاتكم، وسارعوا إلى تأليف حكومة نريدها أن تكون على مستوى آمال اللبنانيين، لا تراهنوا على صبر الناس الذين يعانون ويتألمون في كل يوم بل في كل ساعة، فإن صبرهم لن يدوم طويلاً ولن يسكتوا بعدما باتوا كالغريق الذي لا يخشى من البلل.
في هذا الوقت، أعادت المسيّرات التي أطلقتها المقاومة من لبنان إلى الواجهة موضوع الثروة الوطنية بعدما كادت تنسى وبعدما أدار العدو ظهره لمطالب لبنان بحقوقه في النفط والغاز، وراح يمارس المماطلة والتسويف والتمييع واستنفاد الوقت ليفرض الأمر الواقع، ويبدأ باستخراج الغاز وهو يراهن في ذلك على انقسام القيادات اللبنانية، وعدم سعيهم الجاد للاستفادة من ثروتهم الغازية…
ونحن هنا، نجدد دعوتنا إلى ضرورة توحيد الموقف اللبناني وعدم التفريط بثروة اللبنانيين، وأن لا يتعامل مع هذه القضية من موقع ضعف بل من موقع قوة الحق الذي يمتلكه لبنان والقوة التي لديه والتي جاءت المسيرات لتعبر عنها، وأن نعي أن هذا العدو كلما قدم له تنازل سيطلب تنازلاً آخر كما يطلب الآن، فهو لن يرضخ إلا للمنطق الذي أثبت فعاليته وهو منطق القوة لا منطق الاستجداء.
وأخيراً، فإننا نتوجه بأسمى آيات التهاني والتبريك للمسلمين بشكل خاص وللبنانيين لحلول عيد الأضحى المبارك الذي يصادف نهار غد السبت سائلين المولى تعالى أن يحمل بشائر الخير والسلام للجميع.
وفي الوقت نفسه، نتوجه إليكم بالشكر الجزيل للوفاء الذي عبرتم عنه بحضوركم الفاعل في الذكرى الثانية عشرة لرحيل السيد الوالد(رض) حيث أكدتم المضي على نهجه الذي عمل له طوال حياته وهو نهج الإسلام المنفتح على الحياة وعلى الآخرين وعلى قضايا العصر والذي هو حياة للفكر والروح وللقيم والمبادئ والمواقف الحرة العزيزة والنفوس الأبية والإرادات الفاعلة.
Discussion about this post