بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يعد خافياً على أحد حقد الكيان الصهيوني على مدينة ومخيم جنين، وحجم الكره لسكانهم والنقمة عليهم، ومدى رغبتهم في تدمير المخيم وتمشيط المدينة واجتياح قرى وبلدات المحافظة، والقضاء على المقاومة فيها وقتل رجالها، وتفكيك خلاياها واعتقال أبنائها، وتخريب مؤسساتها وهدم بيوتها واستهداف مقراتها، وشطب هويتها وإنهاء رمزيتها، وتشويه صورتها ونزع هيبتها، والحد من سيطرتها وتضييق حركة أبنائها، وتغيير نمطها المثالي ونموذجها المقاوم، ومنع تقليدها ومحاربة المتشبهين برجالها، فقد أضحت نموذجاً يحتدى، ومثالاً يقلد، وأسوةً يتسابق الفلسطينيون ويتنافسون على أن يكونوا مثلها.
فقد أدمتهم جنين وأذلتهم، وأسقتهم الهوان ألواناً وجرعتهم المرَ صنوفاً، وقتلت جنودهم، وفتت قلوب أمهاتهم، ومرغت أنف جيشهم الذي يدعون أنه لا يقهر، وهزت صورته وأذهبت هيبته، وأجبرته على الوقوف على أبوابها مهاناً، والانتظار على مداخلها حيرةً، والامتناع عن اجتياحها خوفاً، والتردد في منازلتها عجزاً، واقتحامها نقراً والتوغل في عمقها حذراً، والانسحاب منها مذعوراً، والتراجع عن خططه فشلاً، بعد أن أدرك يقيناً أن جنين عصيةً على الكسر كجوزةٍ، وأبيةً على الانحناء كشجرةٍ، وماضيةً في المقاومة كجلمود صخرٍ حطه السيل من علٍ، لا يردها غير العودة والتحرير، ولا يوقفها غير النصر والتمكين.
لم ترسم جنين صورتها الناصعة في مقاومة سلطات الاحتلال الإسرائيلي في سوح المقاومة وجبهات القتال فقط، وهي صورٌ كثيرةً وعديدةٌ، وتتكرر على مدى الأيام وتكبر، وتزداد ولا تنقص، وتقوى ولا تضعف، بل رسمتها بقوة، ونقشتها بجدارةٍ في سجلها الوطني، وحفرتها في ذاكرة العدو عميقاً يوم أن نجح أربعةٌ من أبنائها الأسرى في الفرار من سجن جلبوع الحصين، وتمكنوا على مدى أيام من العبث بالمنظومة الأمنية الإسرائيلية، والتهكم على أجهزة الكيان وجيشه، والانتصار عليه بأبسط الأدوات وأقلها خطراً.
بل يصر أبناء جنين محافظةً ومدينةً وبلداتٍ على ملاحقة سلطات الاحتلال ومداهمته في حصونه وداخل جدرانه، ومهاجمة جنوده وقنص مستوطنيه، وتسجيل نقاط قوةٍ وتفوقٍ عليه، ولا يكتفون أبداً بصد عدوانه ورد قواته، والدفاع عن أهلهم وسكان بلداتهم، ومنع جيشهم المردوع من الدخول إلى مناطقهم واغتيال رجالهم واعتقال أبنائهم، بل يخترقون تحصيناتهم، ويتجاوزون إجراءاتهم الأمنية، وينتصرون على حالات الطوارئ التي يعلنها الجيش وتنفذها الأجهزة الأمنية، ويصلون إلى أهدافهم وينفذون عملياتهم، ويثخنون في العدو ويستشهدون، أو يزيدون في رعبه وينسحبون، مما يزيد في حقد سلطات الاحتلال عليهم وخوفه منهم.
يبدو أن سلطات الاحتلال مصرة على معاقبة جنين وتأديبها، ومحاسبتها والتضييق عليها، منعاً لانتشار لهيبها إلى مناطق أخرى، ولكنها لا تريد أن تتورط مع سكانها في معركةٍ طويلةٍ تشبه معركة مخيم جنين عام 2002، التي تكبدت فيها خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، فضلاً عن اهتزاز صورتها وفقدان هيبتها، ولهذا فهي تخطط لتحقيق انتصارٍ بالنقاط وتفوقٍ بالنتائج ولو كانت متفرقة أو متباعدة، ومنفصلة وغير موصولة، إلى أن تجد أن الفرصة قد أصبحت مؤاتية لاجتياحها كلها، وإعادة احتلالها بالكامل، إذا تأكدت أن المقاومة فيها قد ضعفت، وأن شكوتها قد انكسرت، وأن بيئتها لم تعد قادرة على تحملها والصبر معها.
يشير المتابعون للشأن الفلسطيني ولأعمال المقاومة المنطلقة من القدس والضفة الغربية، أن عدد شهداء مخيم جنين وحده بلغ منذ بداية العام الجاري 22 شهيداً، فضلاً عن عشرات الجرحى ومئات المعتقلين، حيث لا يكاد يمر يومٌ إلا وتقوم فيه سلطات الاحتلال بمحاولة اجتياح بلدةٍ أو قريةٍ فضلاً عن مخيم جنين الصامد، ينفذون خلالها العديد من العمليات الأمنية، ورغم أنهم ينسحبون أمام قوة المقاومين وصلابتهم، خاصةً بعد مقتل أحد ضباطهم على مداخل المخيم، إلا أنهم ينجحون في كل مرةٍ في قتل أو اعتقال بعض المقاومين، وهي أحداث تهدد في حال استمرارها وتكرارها الدائم، بمزيدٍ من الضحايا والشهداء.
يدرك أهلنا في جنين أن العدو يهدف إلى إضعافهم، ويتطلع إلى الانتقام منهم، ويعض على جرحه ويخفي ألمه انتظاراً لفرصةٍ يحقق خلالها هدفه، ويصل إلى غايته القديمة، التي يريدها أن تكون درساً قاسياً لجنين وغيرها، مما يفرض على المقاومة أن تدرك مخططات العدو وتفشلها، وأن تقطع عليه الطريق وتسبقه، وهو ما يصر عليه أبناؤها، الذين باتوا يجوبون أرض فلسطين التاريخية رجالاً مقاومين، ومقاتلين صناديد، وشجعاناً مغامرين، يداهمون العدو قبل أن يدهمهم، ويباغتونه قبل أن يهاجمهم، وكلهم أملٌ ويقين أن الزمان بات معهم، وأن الظروف أصبحت تخدمهم، وأن المستقبل الواعد يتراءى أمام أعينهم نصراً وفتحاً، وأن العدو بات قبلهم يترقب زواله ويتهيأ لمصيره.
Discussion about this post