ميشيل كلاغاصي
لم يعد ممكناً إخفاء العلامات الواضحة للأزمات السياسية والاجتماعية في تركيا، بالتوازي مع أزماتها الاقتصادية المتنامية بشكل متزايد، والتي تكاد تؤدي إلى نتائج كارثية، فالليرة التركية تعاني هبوطاً وتدهوراً مخيفاً، وسط انخفاض احتياطيات النقد الأجنبي وتصاعد الديون الخارجية، ناهيك بارتفاع نسب البطالة وتنامي الاستياء الشعبي من مجمل السياسات الداخلية والخارجية للرئيس رجب طيب إردوغان وحكومته، ما انعكس على انخفاض نسبة تأييده إلى ما دون 39%، بحسب الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة “متروبول”، الأمر الذي يطرح المزيد من التساؤلات عن فرص بقائه رئيساً للبلاد.
وفيما تبقّى من الوقت، إلى أن يحلّ موعد إجراء الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة في حزيران/يونيو 2023، يدخل الرئيس التركي وحكومته سباقاً مع الزمن، في محاولةٍ شبه يائسة لتقديم أدلّة مقنعة على قدرته على إعادة الاستقرار إلى اقتصاد منهك كانت له اليد الأولى في هزّه وإضعافه، نتيجة تفرّده بالحكم، بوصفه ديكتاتوراً تركياً جديداً، محاطاً بزعماء المافيات التركية والعائلية والحزبية. وعلى الأرجح، لن يتمكن من فعل الشيء الكثير، في ضوء نهجه واتباعه السياسات نفسها التي أوصلته وبلاده إلى هذا الحال.
انطلاقاً من هذه الخلفيّة، يحاول الرئيس التركي صبّ جهوده على تغيير سياساته الخارجية، بعد فشل اعتماده على التحركات العسكرية للجيش التركي، الذي أراد له أن يكون الجيش الأول في مشروع طوران.
ومن خلال دعم وسائل الإعلام التركية الموالية، أطلق الرئيس التركي مزاعمه حول جدية مراجعة السياسات الخارجية، وبدء “مرحلةٍ جديدة” تقوم على السلام والاستقرار والأمن الدبلوماسي مع دول المنطقة. وتمّ تسليط الأضواء على الاجتماعات التي يجريها الرئيس مع مستشاريه ومساعديه لمناقشة المراجعة الكاملة للسياسة الخارجية، وتشكيل مجموعات عمل لتطوير العلاقات مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” وأرمينيا ودول الخليج العربي ودول البلقان.
وقد عزّزت وسائل الإعلام التركية خطوات أنقرة لإعادة العلاقات مع “إسرائيل”، إضافةً إلى إعلان الرئيس إردوغان زيارة نظيره الإسرائيلي لتركيا، وإمكانية نقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا…
وفي هذا السياق، أجرى وزير الخارجية التركي محادثة هاتفية مع نظيره الإسرائيلي هي الأولى منذ العام 2008، في وقتٍ أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى الأثر الكبير الذي تركته تصريحات إردوغان في “المجتمع” الإسرائيلي ووكالات الأنباء الدولية.
أما عن تطوير العلاقات التركية مع دول الخليج العربي، إذ ترتبط أنقرة بعلاقات وثيقة مع قطر والكويت، فقد بدأت مؤخراً عملية جديدة لتطوير العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة. كما أنّ تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية يعدّ أحد الأهداف التي تسعى حكومة إردوغان لتحقيقها في سياستها الخارجيّة الجديدة. وفي هذا الصّدد، أشار الرئيس إلى نيته زيارة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في منتصف شباط/فبراير الحالي.
ومن خلال “المرحلة الجديدة”، تحرّك إردوغان لتعزيز خطوات تطبيع العلاقات مع أرمينيا، وتم تعيين مبعوثين خاصين لكلا الدولتين، وانطلقت الرحلات الجوية المتبادلة بينهما، وأُعلن عن خطّة لتحويل مقاطعة “فان” التركية إلى منطقة سياحية للأرمن، وهي التي يعتبرونها عاصمة أرارات، وسط المملكة الأرمينية، ومركزاً للثقافة الأرمنية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، إلى أن دمّرها الأتراك إبان الإبادة الجماعية في العام 1915.
وفي سياق “المرحلة الجديدة”، قام الرئيس إردوغان بأول زيارة خارجية له هذا العام إلى ألبانيا، واصطحب معه وفداً مهماً ضم وزراء الخارجية والدفاع والداخلية، بما يعكس اهتمامه بمنطقة البلقان كلّها. كذلك، استقبل الرئيس الصربي في أنقرة، وبحث معه حلّ الأزمة في البوسنة والهرسك بعيداً عن بعض تفاصيل اتفاقية “دايتون”، وأكّد ضرورة اجتماع زعماء البوسنة وكرواتيا وصربيا.
بات واضحاً اتّجاه سياسة الرئيس إردوغان الخارجية، من خلال عرض وساطته لحلِّ الأزمة في البوسنة والهرسك، وإعلان التزامه بالحلّ السلميّ في القوقاز من خلال منصّة “3 +3” التشاورية الإقليمية، والتوسط لتسوية الخلاف بين روسيا وأوكرانيا، على الرغم من دعمه العسكري لأوكرانيا.
يسعى الرئيس التركي لإظهار رغبته في أن تكون تركيا قوة عالمية، على الرغم من افتقارها الإمكانيات التي تسمح لها بطرح مبادراتٍ تتناسب مع جدول الأعمال الذي تحتاجه هذه الدول، في الوقت الذي تحتاج أنقرة إلى تعزيز علاقات التعاون الاقتصادي مع روسيا تحديداً، فهي الدولة الوحيدة في المنطقة القادرة على مساعدة تركيا من خلال العلاقات الوثيقة بينهما، والتي لم يلتزم بها الرئيس التركي خلال العقد الماضي، وراهن على واشنطن والناتو وبعض العواصم الغربية ضد المصالح الروسية.
من المثير للاستغراب أن يتحوّل إردوغان من السلطان والإمبراطور العثماني إلى أتاتورك جديد، عبر تغيير جلده وإطلاق بضع مبادرات سياسية خارجية يعتقد أنّها ستضمن له الزعامة داخل تركيا وخارجها في “قرنٍ تركي جديد”… وسط عالمٍ غربي وأوروبي وعربي وآسيوي وأفريقي لا يثق به، ويراقب تعثّره في حل مشاكله الداخلية وتنظيف نفسه من النفاق الاستراتيجي، وفساد حقبة حكمه وحكومته وحزب “العدالة والتنمية”.
Discussion about this post