ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما قاله رسول الله(ص): “يُفتَحُ لِلعَبدِ يَومَ القِيامَةِ عَلى كُلِّ يَومٍ من أيّامِ عُمُرِهِ أربَعٌ وعِشرونَ خِزانَةً عَدَدَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ فَخِزانَةٌ يَجِدُها مَملُوءَةً نوراً وسُروراً فَيَنالُهُ عِندَ مُشاهَدَتِها مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرورِ ما لَو وُزِّعَ عَلى أهلِ النّارِ لأَدهَشَهُم عَنِ الإِحساسِ بِأَلَمِ النّارِ، وهِيَ السّاعَةُ الَّتي أطاعَ فيها رَبَّهُ، ثُمَّ يُفتَحُ لَهُ خِزانَةٌ أُخرى فَيَراها مُظلِمَةً مُنتِنَةً مُفزِعَةً فَيَنالُهُ مِنها عِندَ مُشاهَدَتِها مِنَ الفَزَعِ والجَزَعِ ما لَو قُسِمَ عَلى أهلِ الجَنَّةِ لَنُغِّصَ عَلَيهِم نَعيمُها، وهِيَ السّاعَةُ الَّتي عَصى فيها رَبَّهُ، ثُمَّ يُفتَحُ لَهُ خِزانَةٌ أُخرى فَيَراها خالِيَةً لَيسَ فيها ما يَسُرُّهُ ولا ما يَسوؤُهُ، وهِيَ السّاعَةُ الَّتي نامَ فيها أوِ اشتَغَلَ فيها بِشَيءٍ مِن مُباحاتِ الدُّنيا، فَيَنالُهُ مِنَ الغَبنِ وَالأَسَفِ عَلى فَواتِها حَيثُ كانَ مُتَمَكِّناً مِن أن يَملأَها حَسناتٍ ما لا يوصَفُ، ومِن هذا قَولُهُ تَعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}”..
الحياة، أيُّها الأحبّة، فرصتنا، فلنملأها بما يرضي الله، حتى تكون كلّ خزائننا مملوءةً نوراً وسروراً، وبذلك نكون أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التحديات…
نودع اليوم سنة هي كانت من أسوأ السنوات التي مرت على اللبنانيين، وقد صنفت بالأسوأ في العالم، فقد شهد اللبنانيون في خلالها طوابير الذل أمام محطات المحروقات، حيث كان عليهم أن يقضوا الساعات الطوال لتعبئة خزانات سياراتهم من الوقود، وهي لم تنته إلا عندما تم رفع الدعم عنها والذي تسبب في ارتفاع سعرها، وعانوا من الارتفاع غير المسبوق في سعر صرف الدولار ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية عشرات الأضعاف، ووصل الأمر إلى الدواء وكلفة الاستشفاء والنقل والتدفئة واشتراك الكهرباء، فيما تدنت قيمة الرواتب التي يقبضها معظم اللبنانيين بالعملة الوطنية، ولم تعد قادرة على أن تلبي أدنى حاجاتهم ما جعل الغالبية العظمى من اللبنانيين تقع تحت خط الفقر فيما بقيت محاولات الإنقاذ من جانب الدولة والمصرف المركزي قاصرة وليست بذات جدوى وهي أقرب إلى المسكنات..
وقد جاء ذلك في ظل تأزم بين أركان الدولة، أدى إلى شلل على صعيد مجلس الوزراء، في حين كان المطلوب أن تتضافر جهود القوى السياسية من أجل إنقاذ البلد ومعالجة أزماته والتخفيف من وقعها على اللبنانيين، وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك التأزم على كل مفاصل الدولة ومؤسساتها وقد يصيب الاستحقاقات القادمة التي تنتظر الوطن..
إننا نأمل أن يحمل العام الجديد الأمل للبنانيين بالخروج من كل هذا الوضع الصعب، ولكن هذا لن يحصل إن لم تقم القوى السياسية بمراجعة أسلوب أدائها السياسي، وخرجت من حساباتها الخاصة والفئوية، ورأت أن الطريق الأسلم لإنقاذ البلد لا يبنى بالاستئثار أو بغلبة طائفة على طائفة أو مذهب على مذهب، أو فريق على فريق، هو يتم بالتوافق على مشروع وطني واحد يتلاقى عليه الجميع ويعملون له، بدلاً من أن يكون لكل طائفة مشروعها الخاص..
ومن هنا، فإننا نقف مع أي دعوة للحوار، تؤدي إلى الوصول إلى هذا المشروع بصرف النظر عمن يدعو إليها أو ما هي خلفياته، وتعالج من خلاله الهواجس المختلفة للطوائف والمذاهب، شرط أن يكون جدياً وموضوعياً، ولا يقف به كلٌّ على قراره أو رأيه بل من خلال تنازلات متبادلة نريدها دائماً لمصلحة الوطن، ووضعه على سكة الإصلاح والتعافي..
إننا نرى أن هذا هو السبيل للخروج بالبلد من النفق المظلم الذي دخل فيه وتحريك عجلة المؤسسات، حيث لا يمكن أن يتم ذلك باستمرار التنافر بين القوى السياسية والمماحكات التي تجري بينها، والتي تنعكس على كل مؤسسات الدولة.. وإذا كان البعض من الداخل والخارج يرى أن البديل من ذلك هو الانتخابات، فعلى الرغم من أننا نراها ضرورية لتجديد الحياة السياسية ولمحاسبة من أساؤوا إلى اللبنانيين وإلى مقدراتهم، إلا أننا لا نرى أنها ستأتي بالحل إن استمر الجو المتوتر والاحتقان الذي نشهده والذي سيزداد حدة مع الانتخابات، حيث سيكون العامل الأساسي فيها لكسب المزيد من الأصوات هو استثارة الغرائز الطائفية والمذهبية، لا المشاريع والخطط التي تخرج البلد من الانهيار وتعيده إلى العافية.. وما قد يزيد الأمور تعقيداً هو رهانات العديد من القوى الدولية على التغيير من خلال صناديق الاقتراع، وهي بالطبع تريد ذلك لحسابها ما يفضي إلى جعل البلد مسرحاً للصراع في ما بينها ويزيد الانقسام فيه.
ومن هنا، فإننا نأمل أن تلقى دعوات الحوار صدى إيجابياً في هذا البلد بعد أن تعطلت كل البدائل الأخرى، وبعدما لم تعد المؤسسات قادرة على أن تؤدي هذا الدور.. وإلى أن يتحقق ما نصبو وندعو إليه، فإننا نجدد دعوتنا للعمل الجاد من أجل الإسراع بإزالة كل العوائق التي تقف أمام عودة الحكومة إلى الالتئام، حيث لا بد بديل عنها لمعالجة الأزمات الاجتماعية والمعيشية والصحية والأمنية والتي تزداد يوماً بعد يوم والتي يبشر اللبنانيون بها في قادم الأيام، ولن يكون البديل منها الجهود الفردية للوزراء أو القرارات التي يتخذها مجلس الدفاع الأعلى على أهميتها..
في الوقت نفسه، نعيد دعوة وزارة الاقتصاد والبلديات إلى تعزيز الرقابة على الأسعار وعلى نوعية المواد الغذائية والسلع والدواء الذي يطرح في السوق والذي أصبح خاضعاً لاستغلال التجار وجشعهم، حرصاً على قدرات المواطنين الشرائية وسلامة غذائهم ودوائهم..
وفي مجال آخر، فإننا أمام الارتفاع الخطير في أعداد المصابين بالكورونا والمرشح للازدياد، نجدد دعوتنا إلى اللبنانيين إلى التقيد التام بالإجراءات الوقائية والصحية، حتى لا يدخل البلد في مرحلة هو غير قادر على تحمل تبعاتها، لعدم قدرة المستشفيات على تحمل أعبائها ولا المواطنين ولا الدولة في ظل الواقع الصعب الذي يعانون منه.. في الوقت نفسه ندعو الدولة إلى عدم التهاون في الإجراءات التي اتخذتها وأن لا تدخل في ذلك حسابات تمنع تنفيذ هذه الإجراءات.
ونبقى على صعيد العراق، فإننا نأمل بعد طي صفحة الانتخابات أن يتم التوافق بين المكونات السياسية العراقية على حكومة تضم كل أطراف الطيف العراقي لمعالجة الأزمات التي يعاني منها الشعب العراقي ومواجهة التحديات من الداخل والخارج وهي كثيرة…
وأخيراً، ونحن نستقبل سنة ميلاديّة جديدة، ندعو الله أن تكون هذه السنة سنة خير ويمن وبركة، تحمل إلينا تباشير الأمل بالصحة والأمن والسلام الذي يحتاجه اللبنانيون والعالم.
وللتّذكير، فإنّنا نريد لليلة رأس السّنة أن تكون ليلة خالية من المفرقعات والرّصاص، ليلة هادئة تسمح بالتّفكير والتأمّل، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون إلى التّفكير والتأمّل والدّراسة والتّخطيط لمستقبلنا، وكلّ عام وأنتم بخير.
Discussion about this post