لم تكن قراءتي لحياة الكتُاب قراءة عابرة، بل هناك حيوات عدة عثرتُ عليها في كل كتاب، أجد نفسي أنسل من مكاني ولغتي ومجتمعي ومنزلي ؛ لأسمع أي صوت يشبه صوتي ويتطابق مع معزوفتي الروحية من داخل تلك الكتب المصتفة ، مقدرة كل سطر وحرف وعنوان يحتفظ به جهازي الممتلئ، ومكتبتي الجائعة، أميلُ لبسطاتهم القديمة، لحسهم الدؤوب في التعبير، أشرد كثيرًا وغالباً ماتستدرجني الحياة مُقاطعةً تشير الساعة إلى “أن حيَّ على العمل” تنتزعني من صفو القراءة، إلى العمل الشاق؛ لأنجز بعض الاعمال المتطلبة و التي يجب على المرء أن يقوم بها ؛حتى تهبه الحياة ما يقتاته لآخر يومه، أعود من جديد في ساعة غير محددة ، ويوم لا أتذكر تاريخه، وطاقة فقدت نصفها، وبيدٍ خلعت أساورها الفضية وتركتها باردة على تلك المنضدة ، وبرأس فيه دوار أسرع من عقارب الساعة، عيناي مغمضتان تريدان الاستراحة و لكنّ حُب القراءة يفتح عينيّ من جديد يقاسمني أنين الصداع؛ فأعود لتلك الصفحة بنصف عافية، والتي سبق وتركتها في أوج وحدتها بقُصاصة فارغة شبه مربعة، ترتب معي ملحقات القراءة مثلها مثل رجل المرور الذي ينظم الطرقات تحت حر الشمس، ولكن تلك القُصاصة الجائعة لم تأخذ مني قرشاً واحداً حتى يومنا هذا.
وتحتدم المعركة في الثواني الأولى للبدء بالقراءة، تبحث عن الركوز والروقان وطرد شقاء البارحة وكل هذا ؛لكي أعود لحياتكم من جديد، أعود لذاك الكتِاب المنتظر، ولتلك الصفحة المشتاقة، معلنة بداية جديدة تشفع لي غيابي المستمر، كل هذا في سبيل أن أعيش حياتكم وأصبح مثلكم أيها الأدباء القُدامى، فلا شأن لي بِكُتّاب هذا العصر الحديث، لا أحب أن اقرأ لهم إلا ما ندر بقناعة تامة، كل هذا في سبيل أن أصل إليكم بدون قيود أو معتقدات مريضة، أو مقتنيات هشة.
ولا أخفيكم !! أنني في كل مرة اقرأ لكم، ينتابني شعور متوسد بالألم، عليه خرقة بالية قد فقدت لونها البرّاق من شدة كمدها الغامق، تغطي نفسها أمام نفسها، حين تكتب وحين تقرأ، بل أحيانا يرتعش جسدي من التعب، و تتقافز الدموع فجأة ولا أدري بها إلا حين تسقط على يدي تبلل أناملي الرشيقة، وتسيل منها نحو براري الورق فيكفهر لونها مع ذوبان الحبر الاسود، حينها فقط أدرك مدى عوزي وحاجتي المستمرة للقراءة، أُدرك قلة ما أمتلك ووفرة مايمتلكوه أولئك العظماء حقاً وليس زيفاً، ليس ما أعنيه كلماتهم أو مفرداتهم أو تشبيهاتهم للحياة، لا.. لا.. كل هذا مكتسبٌ ومقدورٌ عليه بفضل الله .
ولكن ما أعنيه بالضبط هي المعاناة والتجارب التي عاشوها حتى أخرجوا لنا كتبٌ تنبعث من براجمها فضاءات متلونة، ترتفع رائحتها بين أزقة الناس كرائحة السمك عند الفقراء الجائعين، ورائحة الزهور عند الصم البكم، تتابع تحليقها المفعم بالنشاط والحب في الجو والسماء شأنها شأن الأكسجين المتنقل والفراش المرتفع بيننا ولكن بثياب مختلفة وبملامح ليست عادية، تزور أمكنتنا ونميزها قبل أن تقترب منا، ما أرمز إليه بالضبط ، عذاباتهم المستمرة، صدقهم مع حروفهم الفدائية، حيث أنهم لم يعتبروا الكتابة فقط للترويح عن النفس أو مصدر ؛ لتلقي الشهرة ، بل كانت فنا حياتيا يسقونها من دماءهم الطاهرة، ومهجتهم العفيفة كل صباح، و التي لا تُقتبس من أحد بل هي تعيش في فطرتهم العزيزة، هم ألموا بكل حاجات المسلم العربي، خاطبونا، عاطفيا وفكريا ونفسيا، ومقدسيا، لم يدعو بابا إلا وبحثوا عن أسراره، وهكذا التفت نصوصهم بشجرة الصفصاف المتسلقة حتى أفتتن بها كل من اقترب من شروع القراءة .
#اتحاد _كاتبات_ اليمن.
# الجزء_ الأول.
Discussion about this post