قاسم سليماني جنرالٌ فلسطينيُ الهويةِ إيرانيُ الجنسيةِ
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لعل الفلسطينيين كانوا أكثر المتضررين من غيابه، وأشدهم حزناً على رحيله، وأصدقهم أسفاً على اغتياله، وأبلغهم حزناً على فقده، فقد هالهم خبر استهدافه ونبأ استشهاده، وإن كانوا دوماً يتوقعون لمثله شهادةً يفاخر بها، وخاتمةً يسعد فيها، فهذه أمنيته التي كان يتطلع إليها، ودعاؤه الذي كان يرجوه من الله سبحانه وتعالى، ولكنهم حزنوا لرحيله المبكر قبل أن يرى ثمار مشروعه، ونتائج عمله، وإنجازات رجاله، وعاقبه صبره وتضحياته، فقد كان لسنواتٍ طويلةٍ واحداً منهم، وجزءاً من نسيج شعبهم، وطرفاً أصيلاً من مقاومتهم، وجندياً متواضعاً في صفوفهم، ومقاتلاً بسيطاً على جبهتهم، ومنسقاً صادقاً بين أجنحتهم، وساعياً بالوحدة بين فصائلهم، وخادماً لصغيرهم قبل كبيرهم، وناصحاً لتنظيماتهم ومستشاراً لقيادتهم، لا يتأخر إذا طلبوه، ولا يغلق بابه في وجوههم إذا قصدوه، ولا يمنع عنهم مساعدةً إذا سألوه.
رحمه الله وتقبله في الشهداء، وجمعه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن سبق من الصحب الكرام والشهداء العظام، فقد كان حتى شهادته نصيراً للفلسطينيين بصدقٍ، شريكاً في مقاومتهم، وعاملاً معهم في قضيتهم، ومضحياً في سبيلها قبلهم، ومسخراً حياته من أجلها مثلهم، فلا يدخر شيئاً من أجلها، ولا يتأخر عن دعمها، ولا يتوانى عن إسنادها، ولا يخاف من تأييدها، ولا يتردد عن دعمها بالمال والسلاح، حتى غدت المقاومة الفلسطينية قويةً قادرةً، مجهزةً مسلحةً، مؤهلةً مدربةً، جاهزةً حاضرةً، تؤذي العدو وتؤلمه، وتصده وتمنعه، وتقاومه وتهزمه، وتقف في وجهه وترده، وقد كان يحلم بالمزيد ويخطط لما هو أعظم، إذ كانت فلسطين تتراءى أمام ناظريه حريةً واستقلالاً، وقدسها تختال عزةً وكرامةً، وأقصاها يتعالى طهراً وقداسةً.
إنه الجنرال الشهيد الحاج قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، درة قوات الثورة الإسلامية، وتاج أجنادها العظام، وطليعة الجيش الإسلامي لتحرير فلسطين، حامل لواء المقاومة الأول، وصدر الجهاد الأعظم، بفيلقه الفارسي المسلم، وقائده الهمام المقدام، المقاتل الجنرال، الذين آمنوا بالقدس قضيةً، وبفلسطين أمانةً، وضحوا برجالهم من أجلها، وقدموا زهرة أبنائهم على جبهاتها، ودفعوا ضريبة الثبات في سبيلها، وعانوا من ويلات الحصار وعقابيل العقوبات الدولية بسببها، وما زالو على موقفهم ثابتون، وعلى سياستهم ماضون، ففلسطين في قلوبهم عقيدة، ونصرتها واجب، والدفاع عنها حق، والتضحية من أجلها رفعة، والموت في سبيلها شهادة، إنها وصايا الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية الأول، وتعاليم الإمام الخامنئي حامل الراية والوصي على العهد، بأن المقاومة شرف، والدفاع عن فلسطين تكليفٌ شرعيٌ وواجبٌ رباني، وأمانة يسألهم الله عز وجل عنها يوم القيامة، ويحاسب كل مسلمٍ عليها، فيجزى المجاهدون خيراً، ويحاسب المقصرون فيها ذلاً في الحياة الدنيا، وخزياً وندامة في يوم القيامة.
جنرالٌ عسكري هو، رتبةٌ عسكريةٌ عالية، وخبرةٌ قتالية كبيرة، وتجارب ميدانية عديدة، وأوسمة تقديرية متنوعة، ومنصبٌ رسميٌ مرموق، استحقه بحقٍ وجدارةٍ، بصدقه وصبره، وإخلاصه وعمله، ووفائه وتجرده، وإيمانه واعتقاده، وسلوكه وخلقه، وإقدامه وتضحيته، فكان قائداً فذاً، جنرالاً في ميادين الوغى وسوح القتال، منظماً مخططاً، يقود الجموع ويوجه القوى، ويضع الخطط ويرسم الخرائط، ويفرض نفسه وينتزع من العدو نصره، لا يعرف الهزيمة، ولا يقبل بمنطق الضعف، ولا يسلم باختلال موازين القوى، ولا يتعرف بالعجز وعدم القدرة، بل يصنع القوة وينتزع النصر، ويمتلك الإرادة ويفرض الظفر.
لكنه بعيداً عن الصفات الرسمية، والنياشين العسكرية، والمناصب المتقدمة والوظائف الرفيعة، فقد كان جندياً مقاتلاً، لا يختلف عن بقية المقاتلين ولا يميزه عنهم شيء، يحمل كما المقاومين بندقيته، وينزل معهم إلى الميدان، وينتقل وإياهم من موقعٍ إلى آخر، ويبيت معهم في الكهوف والملاجئ، وفي العراء والمهاجع، لا يختلف عنهم ولا يتميز فيهم، فلا نجوم تعلو كتفيه، ولا بزةً عسكريةً تميزه عن غيره من المقاتلين، بل يبدو دونهم إذ يعتمر قبعته، ويضع على صدره شملته ويرسلها من فوق عنقه، التي يعتز بها وشاحاً في ساحات القتال، ونيشاناً بين المقاتلين يفخر بها، وتراه يحمل قربة الماء يتوضأ بها، ويفترش الأرض حيث يكون ويصلي فوقها، يؤم رجاله، ويدعو الله معهم سائلاً إياه النصر والتوفيق، والثبات والنجاة.
يعرف مدن فلسطين كلها، بلداتها وقراها ومخيماتها رغم أنه لم يدخلها، ويحفظ معالمها وشواهدها وإن لم تطأ أرضها قدماه، فقد كان يقرأ عن دروبها وأزقتها، وعن شوارعها وطرقها، وعن حدائقها وبساتينها، وعن عيونها وآبارها، وبحرها ونهرها، واعتاد أن يدرس جغرافيتها ويطلع على تاريخها، ويحفظ الكثير من تفاصيلها الدقيقة، ويدون كل صغيرةٍ وكبيرةٍ عنها، مما يظن أنها تخدم المقاومة وتنفع في صمود الشعب الفلسطيني وتفيد في ثباته، حتى غدا خبيراً بها كأهلها، وعالماً فيها كسكانها، وعارفاً بخفاياها كأبنائها، وقد وجه رجاله ومساعديه ليكونوا مثله، خاصةً أولئك المعنيين بالمقاومة، والمكلفين بمتابعتها ورعاية رجالها ودعم أبنائها، فقد أصبحوا مثله ثقافةً ومعرفةً، وخبرةً ودرايةً، إذ استقوا منه المسؤولية والاهتمام، كما تشربوا منه من قبل الصدق والإخلاص.
كان قاسم سليماني يعرف أهل فلسطين جيداً، ويميز بين سكان القدس ومدن الضفة الغربية، ويعرف أهل غزة جيداً والمرابطين من أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948، كما كان يعرف الفلسطينيين اللاجئين إلى سوريا ولبنان، والمقيمين في الأردن والشتات، ويعرف حاجة كل منطقة والظروف التي يعيشونها، والتحديات التي يواجهونها، وقد كان همه الأكبر أن يساهم وبلاده في دعم صمودهم وإسناد ثباتهم، ليقينه أنهم من يحفظ القضية ويصبغ الأرض بصبغة أهلها، ويحافظ على هويتهم العربية والإسلامية، التي تقف في مواجهة الهوية الإسرائيلية اليهودية الاستعمارية الوافدة، ولهذا فقد كان اهتمامه منصباً على الإنسان الفلسطيني عموماً، فهو العنصر الباقي، والجندي المقاتل، والهوية الثابتة، وهو الذي يستطيع أن يواجه الكيان الصهيوني، وأن يبطل روايته، ويتحدى أساطيره، ويقف بشرعيته الخالدة في وجه مخططاته وأحلامه.
وهو الذي اعتاد على استقبال أبناء فلسطين والجلوس معهم، في طهران وبيروت ودمشق، والتعرف عليهم والاهتمام بهم والتفرغ لهم، أياً كانت هويتهم السياسية وانتماؤهم التنظيمي، فقد استوى عنده أبناء وكوادر التنظيمات والفصائل الفلسطينية، فلا يميز بينها إلا بقدر عملها وعلو كعبها، وحجم مقاومتها، ولهذا فقد تساوى عنده أبناء حماس وفتح والشعبية والجهاد الإسلامي وكل القوى الفلسطينية، الذين يحفظون جميعاً فضله، ويذكرون دوره، ولا ينكرون عطاءه وتضحياته، فقد أعطى الجميع وأغدق على الكل، ولم ينس أحداً صغيراً أو كبيراً، ولم يَمُن على جهةٍ أياً كانت أو يحرجها، فقد كان حيياً خجولاً محباً للقوى الفلسطينية، يحافظ على كرامتهم، ويحرص على عفتهم، ولا يغضب أحداً منهم.
كان قاسم سليماني يدرك أن قوة المقاومة الفلسطينية تكمن في الحق الذي تدافع عنه، وتسعى إلى تحقيقه، وفي شرعية مقاومتها وقانونيتها، ولكنه يؤمن أنها تكمن أيضاً في عظمة الشعب الفلسطيني الصابر المحتسب، المضحي المعطاء، الذي احتضن المقاومة وشكل لها حاضنة آمنة ومستقرة، وقدم معها خيرة أبنائه شهداء، فحفظ قدرهم وأكرم ذويهم، واهتم بعائلاتهم وأسرهم، ولم يقصر معهم، ولم يتردد في الوفاء بحاجياتهم، واستضاف بعضهم، وكَرَّمَ الكثير منهم، وخصهم برواتب ومساعداتٍ تعوضهم، وتؤدي بعض الحق لهم.
أما الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون، فقد كانوا في مقدمة أولوياته، يحفظ عددهم وانتماءاتهم، ويعرف كل شئ عنهم، أجناسهم وأعمارهم، أصحاءهم ومرضاهم، شيوخهم وشبابهم، كهولهم وأطفالهم، ويعرف السجون والمعتقلات التي يقبعون فيها ويعانون منها، وكان يستقبل رسائلهم ويراسلهم، ويستمع إلى شكواهم ويلبي حاجتهم، ويعمل مع قوى المقاومة الفلسطينية لاستنقاذهم وتحريرهم، وتحسين شروط عيشهم، والتعجيل في الإفراج عنهم، وكان يسعى مع قوى المقاومة الفلسطينية لمبادلتهم وتحريرهم، فقد كانوا همه الذي لا يفارقه، وشغله الذي لا يهمله، وقد كان له فضلٌ فيمن سبق تحريرهم، وفي الصفقات التي فرضتها المقاومة على العدو الإسرائيلي، ولا أعتقد أن من بعده سينامون عن هذا الهدف وسيتخلون عنه، بل سيواصلون العمل الجاد بالتعاون مع كل القوى الفلسطينية لتحرير كل الأسرى والمعتقلين.
ولطالما استقبل بنفسه ومع إخوانه ومساعديه، جرحى الشعب الفلسطيني بكل انتماءاتهم، وفتح لهم المستشفيات الإيرانية وساهم في علاجهم واعتنى بهم، وأغدق عليهم وأكرمهم، وتابع حالتهم وهم في المستشفيات يعالجون، وواصل الاهتمام بهم وهم في بيوتهم وعند أهلهم في فلسطين يتعافون، وقد حفظ الجرحى له فضله، وذكروا دوره، وتناقلوا فيما بينهم ولدى غيرهم فضائله الكبيرة وصنائعه الكثيرة.
أثبت الحاج قاسم سليماني أن الجمهورية الإسلامية في إيران لا تفرق في دعمها ومساندتها للمقاومة بين سنيٍ وشيعي، فقد كانت علاقته مع قوى المقاومة السنية تكاد تبز علاقته بقوى المقاومة الشيعية كلها، بل لعله في فلسطين كان يقدم قواها المقاومة وفصائلها المجاهدة على الكثير من القوى الشيعية الأخرى في لبنان أو العراق، فهو قريبٌ من حماس والجهاد الإسلامي وكل القوى الفلسطينية، وكلها قوىً عربية سنيةً مسلمةً، فما تأخر عن التزامه معها، ولا قصر في جهوده أو تردد في عطائه لهم، ولعله كان يعمل على إطفاء نار المذهبية، والقضاء على فتنة الطائفية، ذلك أنه كان يعلم أن العدو هو الذي يوقد أوراها ويشعل لهيبها، فتفريق المسلمين عنده هدف، ووحدتهم لديه رعبٌ، واتفاقهم كابوسٌ لا يحتمل.
أما قادة الفصائل الفلسطينية فقد اعتاد الجنرال قاسم سليماني على استقبالهم، كلما زار بيوت ودمشق، وتنظيم الزيارات لهم إلى طهران، فرادى وجماعات، ومن كل المستويات القيادية، وكان يحرص على استضافتهم وتناول الطعام معهم، فتراه بينهم سعيداً فرحاً، جذلاً مستبشراً، يصافحهم ويبش في وجوههم، ويتنقل بينهم من طاولةٍ إلى أخرى، يرحب بهم ويكرمهم بيديه، ولا يستنكف أن يصب لهم الطعام أو يقدم لهم الحلوى، ولا يعنيه أن يكون له مكان في الصدارة يجلس، أو يقوم بنفسه بينهم ويخدم، في سلوكٍ كريمٍ يظهر حسن تواضعه، وكريم أخلاقه، وشديد حبه للفلسطينيين وقادتهم، وتكريمه للمقاومين والوفاء لهم.
يشهد قادة الفصائل الفلسطينية أن الحاج قاسم سليماني وإخوانه في فيلق القدس، قد لعب دوراً كبيراً، وبذل جهوداً مضنية في بناء محور المقاومة وتحصينه، بدءاً من طهران وصولاً إلى غزة، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت، واستطاع على مدى سنوات عمله في فيلق القدس التي زادت عن عشرين عاماً، من خلال العمل المتواصل والجهد الدؤوب، والزيارات والاجتماعات والتنسيق المستمر، بناء محور المقاومة، الذي بات يخيف الأعداء ويربكهم، إذ أثبت هذا المحور أنه متناغمٌ متناسقٌ، وأنه متعاونٌ متضامنٌ، وأنه قويُ وصلب، وقادرٌ وفاعلٌ، ويستطيع أن يخوض الحرب معاً، تضامناً مع أي طرفٍ أو نصرةً له، إذ لن يسمح محور المقاومة وقادتها للعدو أياً كان، أمريكا أو إسرائيل، بالاستفراد بأحد أطراف المقاومة والاعتداء عليه.
كما كان للحاج قاسم سليماني دورٌ مشهودٌ وعملٌ مباركٌ قام به للتقريب بين قوى المقاومة الفلسطينية وعمقها العربي والإسلامي المقاوم، إذ حدث شرخٌ بين أطراف المحور، وانقطع التنسيق بين بعضهم، وتعمقت الخلافات وزادت الشكوك، وظن البعض أن عقد المحور قد انفرط، وأن بعض أطرافه قد سلكوا طريقاً آخر ونهجوا سبيلاً مختلفاً، ما أدى إلى حدوث حالة من القطيعة وعدم الثقة، إلا أن الحاج قاسم سليماني تحدي الجميع بقناعاته، وتصدى للكل بوعيه، وبقي واثقاً أن الخير كله هو في أطراف محور المقاومة، وأن من ابتعد سيقترب، ومن غادر سيعود، ومن اخطأ سيؤوب، وتحمل بشخصه وأعوانه كل الانتقادات والآراء التي كانت تتهمه بالإفراط في الثقة، إلا أنه بقي مصراً على يقينه الذي تحقق في النهاية، وأثبت للجميع أن محور المقاومة سيعود أفضل مما كان، وسيلتئم جمعه ويتحد صفه وتتفق قيادته، وهو ما كان بالفعل بعد سنواتٍ قليلةٍ، إذ نجح في استعادة من نأى، واحتضان من ابتعد، وقد شهد قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي بجهوده، وهنأه على صبره ويقينه، وأشاد به وقَبَّلَ رأسه، إذ تمكن من رأب الصدع وجمع الكلمة وتوحيد صف المقاومة الفلسطينية، التي هي أحد أهم ركائز المقاومة والتحرير، إذ لا مقاومة في ظل الاختلاف، ولا انتصار دون تنسيق، ولا بركة دون وفاق.
قدم الجنرال قاسم سليماني من خلال موقعه قائداً لفيلق القدس في الحرس الثوري، الكثير للمقاومة الفلسطينية عموماً، فقد مولها وسلحها، ودربها وأهَّلها، ونصحها وشاورها، وأمدها بالخبرة وزودها بالتجربة، وقد كان له دورٌ كبيرٌ في كل الحروب التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ضد العدو الإسرائيلي، حتى غدا شريكاً لها في النصر، وصانعاً معها الثبات والصمود، وتشهد صواريخ المقاومة في غزة، فجرٌ وزلزالٌ وسجيلٌ على ما قام به الحرس الثوري الإيراني في دعم المقاومة وإسنادها، حتى تمكنت من دك تل أبيب وقصف حيفا، حيث أصابت صواريخها بدقةٍ عاليةٍ أهدافاً إسرائيلية في العمق الفلسطيني، وباتت تهدد نظرية الردع الإسرائيلية، وتخلق معادلة ردع جديدة، عمادها القصف بالقصف، والنار بالنار، والقتل بالقتل، وهي ما شعر العدو الصهيوني بخطورتها فتراجع حيناً، وجبن عن مواجهة المقاومة أحايين كثيرة، وما كان لهذه لمعادلة أن تفرض لولا إصرار قاسم سليماني وعزمه، ومضائه وإصراره، وعمله الصامت وجهده الخارق.
ليست هي الصواريخ التي اعترف العدو الإسرائيلي بأن قاسم سليماني قد زَنَّرَ وطَوَّقَ بها كيانهم، إذ أَمدَّ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالصواريخ الإيرانية، كما أمدها بتقنية صناعتها وتطويرها ، لتكون المقاومة قادرة على الاعتماد على نفسها، والاكتفاء بذاتها، وتصنيع ما تحتاج من صواريخ بنفسها والاستفادة من المواد الخام المتوفرة لها، كما أحاط الكيان الصهيوني بصواريخ دقيقة في الشمال من جهة لبنان، وبصواريخ مدمرة في الشمال الشرقي من جهة سوريا، ويقول الإسرائيليون أن قاسم سليماني سلح اليمنيين وأمدهم بالصواريخ، وجند القوى العراقية بكل أجنحتها العسكرية، لحربٍ قادمة ستشن ضد كيانهم، وستشارك فيها المقاومة الفلسطينية وكل الأذرع الإيرانية في المنطقة، وهو ما لا يقوى الجيش الإسرائيلي على صدها، وما لا تستطيع القبة الفولاذية بكل أنظمتها المضادة للصواريخ على صدها، في ظل أمطارٍ صاروخيةٍ متوقعة، وغزارة نارية مؤكدة.
إلى جانب الصواريخ التي لعبت دوراً كبيراً في تغيير معادلات الردع، فإن لقاسم سليماني وفيلق القدس وقوات الحرس، دورٌ كبير في صناعة صمود المقاومة في غزة، وتمكينها ومضاعفة قوتها، وذلك من خلال سلاح الأنفاق الهجومي، حيث أصبحت المقاومة الفلسطينية من خلال شبكة الأنفاق التحتية التي أنشأتها تحت قطاع غزة، وصولاً إلى مستوطنات وبلدات الغلاف الإسرائيلية، قادرة على أن تقوم بعملياتٍ عسكرية خلف خطوط العدو، وقادرة على الهجوم والمباغتة والقيام بعمليات خطفٍ، كما أصبحت قادرة على حماية أجهزتها ومعداتها وآلياتها الحساسة، فضلاً عن حماية قيادتها السياسية والعسكرية، بعيداً عن مخاطر القصف والاستهداف العسكري الإسرائيلي، وقد كان للحاج قاسم سليماني دورٌ كبير في رسم واعتماد استراتيجية الأنفاق، كما كان له أكبر الدور في تمويل حفرها وتحصينها وتجهيزها.
ما من شكٍ في أن الجمهورية الإسلامية في إيران قد فجعت باستشهاد الحاج قاسم سليماني، وخسرت الكثير بفقده، وأسفت أكثر على رحيله، ولكنها دولةٌ عظيمةٌ وثورةٌ إسلاميةٌ عملاقة، قد اعتادت على التضحية والفداء، وقدمت في رحلة صعودها نحو القمة مئات القادة الشهداء، الذين قضوا غيلةً وغدراً، أو خلال المواجهات والحروب، ولكن الجمهورية الإسلامية في إيران قد واصلت مسيرتها، وتابعت ثورتها ولم تتوقف ولم تنكسر بغياب قائدٍ أو زعيمٍ، ذلك أنها جمهورية ولادة، قادرة على التعويض وردف الأجيال بالجديد الأقوى والأفضل، ورغم أن خسارة الحاج قاسم سليماني جداً كبيرة على الشعب الإيراني المسلم، إلا أنه بإذن الله سينجب البديل، وسيأتي بالخلف، الذي سيحمل الراية كما كان يحملها السلف، وسيكون أميناً عليها وضنيناً بها كما حفظها الأولون، وسلموها عاليةً خفاقةً لهم.
لكن خسارة الفلسطينيين برحيل الحاج قاسم سليماني الذي استحق بصدقٍ وجدارةٍ أن يطلق عليه اسم “شهيد القدس، خسارة كبيرة فعلاً، وفاجعة عظيمة حقاً، ولا أعتقد أن رجلاً واحداً يستطيع في الساحة الفلسطينية أن يشغل مكانه، أو أن يعوض دوره، فقد كان في الساحة الفلسطينية بشخصه فريقاً ولواءً، وفيلقاً وجنرالاً، وقدم للقضية الفلسطينية كما لم يقدم رجلٌ آخر في حياته، سلاحاً ومالاً وخبرةً وتجربةً وعلماً وقوةً وإرادة، ولكنه ما كان يعمل من تلقاء نفسه فقط، بل كان ينفذ تعليمات قائد الثورة الإسلامية، ويفي بوصايا الإمام الخميني، كما لم يكن يعمل وحده، وإنما كان إلى جانبه رجالٌ مثله، وقادةٌ أبطالٌ يشبهونه.
لهذا فإن إيران الإسلام، الثورة والجمهورية، التي تستمر مسيرتها ولا تتوقف، وتؤمن برسالتها ولا تتراجع، ويعمل فيها قادتها بمفهوم التكليف والواجب، لن تتخلى عن فلسطين أبداً، ولن تترك الفلسطينيين وتقصر معهم، وسيأتي من بعد قاسم سليماني قادةٌ ورجالٌ يحملون الراية ويؤدون الأمانة ويواصلون ما بدأه الشهيد، ويتمون الوعد الذي كان يتطلع إليه ويعمل من أجله، وهو تحرير فلسطين، واستعادة القدس، والصلاة في المسجد الأقصى بصحبة المسلمين جميعاً من كل أقطار الكون، حينها سيفرح المؤمنون بنصر الله، وسيتحقق وعده وبشارة أوليائه بزوال الغدة السرطانية، الكيان الصهيوني الغاصب، من الوجود، وما ذلك على الله بعزيزٍ.
بيروت في 5/12/2020
moustafa.leddawi@gmail.com
Discussion about this post