في ذكرى استشهاده لابدّ وأن نقف وقفة إحياء وتقدير نسقط بها عنا الحد الأدنى من الواجب تجاه مبدع أسّس لمشروع نهضويّ متكامل أصيل…
لقد لعبت العديد من العوامل دورا في تغييب فكر الشهيد المجدّد السيّد (محمد باقر الصدر) عن دائرة الوعيّ في ساحتنا العربيّة والإسلاميّة، وعلى رأس هذه العوامل؛ انتماؤه الدينيّ، والمذهبيّ.
•فلكونه ينتمي إلى فئة رجال الدّين في وقت احتدّ فيه الاستقطاب العلمانيّ – الدينيّ؛ لم يلق ما طرحه رضا الكثير من شرائح مجتمعاتنا، لاسيّما وأنّه سجّل موقفا عمليّا مناهضا للنظام العراقيّ برئاسة (صدّام حسين)، وللأيديولوجيا التي يستند إليها. ذلك الموقف الذي كان سببا في استشهاده.
•ولكونه يدين بالإسلام على منهج أهل البيت(ع)؛ كان لانتمائه الشيعيّ الأثر البالغ في تصنيف فكره “أيديولوجيّا” و”طائفيّا منحازا” في أذهان من أطّر عقولهم هذا الموقف المعلّب، فكان للعامل المذهبي بعقليته المنغلقة دورا أساسيّا في إبعاد مشروعه عن العقول والقلوب…
والحقيقة أنّه بالرغم من الانتماء الدينيّ والمذهبي الذي لم يسع يوما (محمد باقر الصدر) لإخفائه أو التبرّء منه، لكنّ فكره حمل جواز سفر إسلاميّ – إنسانيّ، لأنّه ،وبكلّ بساطة، استطاع أن يسبر أعماق الإسلام الرحبة، ليستخرج من دفائنها وكنوزها الإلهيّة ما يحيا به الإنسان، مجسّدا المقولات الرساليّة التغييريّة فكرا وعملا، هادفا لإعادتها إلى سدّة الريادة والتأثير، بعد أن أدرك الهوّة التي أحدثتها (التراكمات الزمكانيّة) بين واقع المسلمين، وأسس الإسلام.
امتاز المشروع الذي عمل عليه (الصدر) بخصائص ثلاث، تمثّل ،في واقعها، مقوّمات النضج والتكامل لأيّ فكر أو اتجاه؛ وهي: الأصالة، والشموليّة، والعمق.
*أولا الأصالة:
أدرك (الصدر) أنّ الريادة والفاعليّة لايمكن تحقيقها بعيدا عن التأصيل، وذلك من خلال ربط النظم -التي ينبغي لحركة الإنسان على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ الامتثال لها- برؤية متجذّرة في كيان الإنسان وفطرته. فما لم نبن مفهومنا الفلسفي الأصيل للعالم، لن نحظى بالأرض الصلبة والرؤية السديدة التي تمنحنا هويتنا واستقلالنا، وتضمن لنا النهوض الحضاريّ. ونظرا لإيمانه ،رحمه الله، بفطريّة الرسالة الإسلامية، وثقته بامتلاكها الأسس الواقعية والإنسانيّة الراسخة؛ لم يتردّد في التعبير عن المفهوم الفلسفي الإسلاميّ للعالم والتنظير له، وهو ما تجسّد جليّا واضحا ومتماسكا في كتابه المعروف (فلسفتنا). ذلك الكتاب التي أجرى فيه دراسة مقارنة تحليليّة نقديّة، ناقش فيها المدارس والمذاهب الفلسفية الأساسيّة على أسس بديهيّة موضوعيّة… لينبّه المثقف العربيّ والمسلم إلى ضرورة الابتعاد عن التقليد الأعمى والتسويق المجّانيّ لأفكار وفلسفات لها إطارها الثقافي الاجتماعيّ الخاص، والتي لاتخلو من الثغرات والأخطاء. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ليثبت وجود كنوز في التراث الإسلاميّ لابدّ وأن نلتفت إليها والعمل على الوصول إليها بسبر أعماق النص الدينيّ ومفاصل التجرية العمليّة للرسول الكريم(ص) والقادة الدينيين العاملين، للتخلّص من تبعات الهزيمة الداخليّة والانبهار بالآخر وتبعيّته.
والجدير بالذكر أنّ المتابع لكتابات محمد باقر الصدر، يلمس حرصه وسعيه لتحرير العقل المسلم من كل الشوائب والرواسب التي أثقلت كاهله؛ سواء أكانت ذات منشأ داخليّ، أو خارجيّ .
ففيما يخصّ الجانب الداخليّ نذكر على سبيل المثال ،لا الحصر، انتقاده للفقه الإسلامي(عملية الاستنباط الفقهي= الاجتهاد)؛ حيث اكتشف أستغراقه في الفرديّة، وابتعاده عن الشأن الاجتماعيّ العام. فضلا عن اعتماده ،تاريخيّا، منهجا تجزيئيّا أفقده الشموليّة والسياقيّة الناظمة لجزئيّات التشريع الإسلامي في منظومة كلّيّة؛ الأمر الذي أظهر الإسلام فاقدا للنظم في الوقت الذي يطرح نفسه منهجا للحياة!!
وفيما يخص الجانب الخارجيّ وتأثيره، نذكر على سبيل المثال أيضا، نقده للمنطق الأرسطيّ، ولاسيّما فيما يخصّ الأوليّات التي ينطلق منها؛ حيث كان له أطروحته الخاصّة في هذا الشأن، التي توخّى من خلالها تجنيب عمليّة التفكير التبعات السلبية لمسلّمات مضطربة في جوهرها.. وهو أحد أنجازات كتابه (الأسس المنطقيّة للاستقراء)…
*ثانيا الشمولية:
يظهر من خلال حركته الفكريّة التنظيريّة سعيه لبناء منظومة شاملة متكاملة، لم يقف فيها عند مساحة هنا أو هناك، وإنما أراد رسم معالم المشهد كلّا متناغما مترابطا. وحتى ما يظهر للوهلة الأولى جزئيّا، لايلبث أن يفصح عن أنّه مكوّن له ارتباطاته وتفاعلاته من موقعه ضمن سياق كلّي. هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح بقراءة مؤلفاته، ولاسيّما الرئيسيّة منها؛ من قبيل (فلسفتنا)، و(اقتصادنا)، و(الإسلام يقود الحياة)… ومن المؤشّرات التي تؤكّد ذلك ما أثر عن المقرّبين منه وبعض تلامذته أنه بعد الانتهاء من كتابة (فلسفتنا)، أراد الشروع في التأسيس للنظام الاجتماعيّ من خلال كتاب بعنوان (اجتماعنا) تجسيدا لمسار منطقيّ بعد التأسيس للمفهوم الفلسفيّ العام، لكنه امتثل لإلحاح الواقع فعكف على الاقتصاد من خلال السفر العظيم (اقتصادنا)، لكنّ رحيله المبكّر واستشهاده، حال دون المتابعة في جانبي الاجتماع والسياسة، واستكمال الإطار النظريّ لمشروعه. مع العلم أن مكوّنات الجانب الاجتماعيّ والسياسيّ ليس بالعسير العثور عليها في مجمل مؤلفاته…
يخرج المطلع على هذا المشهد بقناعة أنّ (الصدر) رحمه الله كان بصدد إعادة تشكيل العقل الإسلاميّ كلّيّا على أسس منهجيّة واتّساق تراتبيّ منظّم؛ يبدأ من نظريّة المعرفة، مرورا بالقوانين الناظمة لعمليّة التفكير (المنطق) على المستويين العقليّ والنقليّ، ( لم يقتصر جهده على المنطق العقلي، بل عمل على آلية التعامل مع النصّ، ولعلّ في تركيزه على التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم ،على سبيل المثال، مايؤكّد ذلك، بعدما بيّن مثالب الاقتصار على التفسير التجزيئيّ وآثاره السلبيّة)، لينتهي به المطاف بتشكيل النظريّات الإسلامية واكتشاف النظم العامة؛ الأمر الذي أهّله وبرّر له رفع شعار: (الإسلام يقود الحياة)، بمعزل عن أيّ حرج، أو انحياز، أو أيديولوجيّا ضيّقة، أو تشدّد…
*ثالثا العمق:
على الرغم من عدم اتقانه لغة غير عربيّة، فقد سجّل متابعة مذهلة(عمقا وإحاطة) للفكر العالميّ. يقول صاحب كتاب (أعلام الفكر العربيّ- مدخل إلى خارطة الفكر العربيّ الراهنة) الدكتور (السيّد ولد أباه): ((يمثّل محمد باقر الصدر حالة فريدة في الفكر العربيّ المعاصر، فهو درس في الحوزات العلميّة في النجف ولم يكن يقرأ باللغات الأجنبيّة، لكنّه أظهر حسّا فلسفيّا قويّا، واطلاعا واسعا على النصوص الفلسفيّة المترجمة إلى العربيّة، كما كان له اهتمام مكين بالأدبيّات الاقتصاديّة.)) (ص 146، ط،1، 2110، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت).
لايمكننا في هذه العجالة استيعاب مقوّمات العمق في فكر (الشهيد الصدر)، لكنّنا نستطيع استجلاء ذلك بما يناسب المقام من خلال تسليط الضوء على المنهج الموضوعيّ السياقيّ الذي بلوره، وحاول بواستطه ،باعتباره الأساس لمشروعه التجديديّ، تشكيل المنظومة المعرفيّة لتخليص العقل الإسلاميّ من فوضى الشتات الفكري التجزيئيّ، والانفتاح على النظم العامة، معتمدا سبر المفردات الرساليّة ووتجليّاتها المتناثرة على امتداد التجربة العمليّة وساحتها التاريخيّة ، بهدف الوصول إلى النظريّات والقواعد العامة.
لقد شبّه الجزئيّات التي يتفاعل معها المسلمون التزاما بدينهم، بمجموعة من الإشعاعات وراءها منشأ يغيب عن الوعي المباشر… لذا علينا اكتشافه بسبر الجزئيّات الظاهرة للوصول إليه، وبهذا نصل إلى (المذهب)، لنميّز ،بعد ذلك، (التاريخيّ الزمانيّ) من (الأصيل الثابت)، جاعلا من ثوابت الرسالة؛ العقديّة منها؛ والتشريعيّة؛ والقيميّة نقطة العلّام التي لايمكن تجاوزها، والأرضيّة الصلبة الراسخة في عمليّة الاكتشاف هذه. أما عن الآلة المنطقيّة لهذه العملية المعرفيّة الدقيقة فقد تجلّت في (الاستقراء) أداة معرفيّة، ولأجل ذلك عمل على البحث في المشكلة الاستقرائيّة، وتحرير الاعتماد عليه من أي شبهة أو خلل منطقيّ. فكان له أطروحته الخاصة في هذا الشأن(المذهب الذاتيّ في المعرفة) التي ضمّنها كتابه(الأسس المنطقيّة للاستقراء)، بعد أن ناقش حلول العقليين والتجريبيين على حدّ سواء. مخالفا بذلك الدائرة الداخليّة المتمثّلة بمنهج المؤسسات الدينيّة التي عوّلت على المنهج العقليّ الأرسطي… والدائرة الخارجيّة التي تضمّ التيّارات الفكريّة العلمانيّة التي اقتبست نظرة الفلسفة الغربيّة الحديثة والمعاصرة للاستقراء…
والجدير بالذكر أنه استثمر إنجازه في الدليل الاستقرائي في جوانب عديدة، على رأسها إثبات وجود الله تعالى وإثبات النبوّة… ليضع العقل المعاصر أمام نتائج لايستطيع رفضها أو التنكّر لها، انطلاقا من تبنّيه في جميع معارفه الاستقراء أساسا، باعتباره يمثّل الركن الركين في المنهج التجريبيّ العلميّ…
وفي المقابل فقد وضع أصحاب المنهج الكلاسيكي في ساحة المدارس الدينيّة أمام تحدّ يلزمهم بمراجعة المنهجيّة المتبعة التي لم تعوّل على الاستقراء الناقص اطلاقا، ولاسيّما في عمليّة الاستنباط الفقهيّ. ولا أقلّ فإنّه ،بما قدّمه، ألزم المعنيّين في الساحة الدينيّة بمناقشة أطروحته وبيان عدم تماسكها ،إن أمكن ذلك. إلا أنّ هذا لم يحصل ،للأسف، حتى اللحظة بالصورة المطلوبة منهجيّا وعلميّا!!
لقد مثّل (محمد باقر الصدر) نقلة نوعيّة في شموليّته وعمقه، وترك لنا مشروعا متكاملا، لابدّ وأن نعي مبادءه ومنهجه وغاياته، ونستكمله بمتابعته؛ تحليلا، ونقدا، وتطبيقا… علّنا نحظى بحلول لما ننادي دائما بوجعه ووهنه وقصوره.
كما وتزداد مسؤوليّتنا تجاهه عندما نستحضر تضحياته وتفانيه وإخلاصه الذي توّجه بتقديم نفسه رخيصة في سبيل مبادئه، وما نذر حياته لأجل الوصول إليه، لنهضة الأمّة ورفعتها لتجسيد الرحمة الإلهيّة التي أرسل بها خاتم الرسل والأنبياء محمد(ص) للبشريّة جمعاء.
Discussion about this post