بقلم /عفاف محمد
بينما وأنا اطالع كتاب قيم بعنوان “رحلة في العربية السعيدة “للكاتب نزيه مؤيد العظم سوري الجنسية لفتني أمر هام .
وهذا الكتاب هو يحكي عن زيارة هذا الكاتب لليمن أيام حكم الإمام يحيى ،وفيه تحدث عن كل منطقة يمنية دخلها منذ دخوله عدن عبر الميناء وصولاً لمأرب الشموخ ..
قد تحدث الكاتب عن أمور ممتعة وشيقة تعرف الفرد اليمني وغيره عادات وتقاليد وثقافات أصيلة وزمن جميل ،يشتم منه ريح تربة اليمن الطيبة وعرق المواطن الكادح البسيط وأمور عديده تهيج مشاعر الولاء والأعتداد بالوطن ..
وهنا سأعلو بكم في علو شاهق ،حيث التاريخ السبأي ،حيث الحضارة ،حيث الهوية اليمنية الضاربة جذورها ،حيث الشيم، والقيم ،والأصالة .
اوليس تاريخ تلك الحضارة العريقة التي ننتمي إليها يجعل الأعناق تشرئب ؟! والارواح تلحق في ملكوت الله مسبحة متدبرة جلال اياته !
في طيات تلك الرحلة السعيدة الى اليمن السعيد تطرق الكاتب في فصل كامل لحديثه عن مأرب الشموخ ،متفحصاً ناسها ،مستكشفاً أسرارها ،وما سرده لنا كان من العجب العجاب، ممايجعل الفرد اليمني المسافر عبر تلك السطور يفخر بأن هذه القطعة الساحرة تنتمي لليمن ،وتجعله يحن لتلك الشمائل ،وتلك الفضائل المتزاحمة .
وجدت نفسي وأنا اتنقل بين السطور أستحلى وأستعذب نقاوة تلك الأيام وعنفوان وطهر الفرد البدوي المتمسك بالقيم والشيم والمناقب الأصيلة ..
كان دخول مأرب آنذاك في طاعة الإمام يحيى قد أكسبهم الهداية التي كانوا قد ضلوا عن سبيلها ،حيث أفاد الكاتب نزيه على لسان أهل تلك البلاد، أنهم قبل دخولهم في طاعة الإمام لم يعرفوا الصلاة ،ولا الصيام، ولا القراءة، ولا الكتابة ،وما كان من جلالة الإمام وحكمته إلا أن بعث لهم في مأرب مرشدين ومعلمين يعلموهم أمور الدين ويفقهوهم فيها ..
وشد ما لفتني هو عادات وقوانين أهل مأرب آنذاك، حيث كانوا من الشدة و الغلظة لايقبلون الأجانب وحتى اليمنيين فيتعاملون معهم وريبة بحذر و يتفحصوا بدقة أسباب ولوج إحدهم في محيطهم ، وهذا ما جعلني أعظم من شأنهم ،وأقارن بين ذاك العصر ومانحن فيه الأن ،اليوم أهل مأرب إلا من رحم الله ،يقبلون المال والسلاح السعودي لقتال إخوانهم اليمنيين ويعينوا دولة بني سعود على سرقة نفطنا وخيرات أرضنا ، نجدهم قد تنصلوا عن تلك القيم المتمثلة في البدو البواسل النشامى ،تنصلوا عن سمات البدوي الحر من كرم وشجاعة ،وإقدام ،
وحرص على ان لايدخل غريب عليهم ولو كلفهم ذلك حياته !
ومما ذكره الكاتب إنه عندما طلب من الإمام أن يسمح له بالسفر لمأرب رفض رفضاً قاطع ، لأن الفكرة لم ترق للإمام ،ولم يسمح له بذلك ،حائلاً دون رغبة المؤلف اكثر من مرة، وذلك حرصاً عليه لما يعرفه من تعنت وضراوة البدو ووحشيتهم ،في حال دخول غريب عليهم ،حيث وقد سبق وقتلوا أجانب حاولوا الوصول الى مأرب بغية إكتشاف آثارها ،منهم المستشرق الالماني بركار، وقنصل إيطاليا الماركيز ديبوزي ،وكذلك مستشرق فرنسي ،والماني آخر ،وانكليزي .
وكان ذلك سبب تأخر الكاتب في زيارته لمأرب لكنه كان شغوفاً بالوصول إليها ولم ييأس من تكرار المحاولات حتى وافق الإمام ورافقه عامل مأرب السيد الكبسي و مجموعة كبيره من الحراس.
وقد قيل عن أهل مأرب في سياق حديث الكاتب مع بعضهم، انهم
كرماء، فرسان، اذا وعدوا اوفوا ،وإذا استجيروا أجاروا ،وإن انتدبوا لعمل قاموا به على اكمل وجه، لايغدرون، ولا يمكرون، ولا يسرقون ،ولا ينهبون، يأثرون الضيف على انفسهم..وفي فترة كانوا يتقتالون ويتغازون ومنذ دخولهم في طاعة الإمام تركوا كل العادات الرديئة وتمسكوا بالشريعة الإسلامية وقاموا بجميع فروضها.
ومما قاله الكاتب عنهم ..
أحببت كل شيء فيهم اني أحببت هيئاتهم التي تدل على الدم الصافي الذي لم يدخلهم دم غريب ،اني أحببت طلاقة ألسنتهم وفصاحتهم ، إني اعجبت بقلوبهم البيضاء النظيفة التي تدل على الطهارة وحسن النية ،وإني احببت صراحتهم وجرأتهم .هؤلاء القوم بعاداتهم السليمة المجردة عن مظاهر المدينة الفارغة .
ومما صادفه الكاتب في طيات رحلته تفحص الجميع له بعين الرهبة من قبل الجميع ونظرات الشك والريبة لدرجة ان رفع أحدهم “جنبيته “حالما رآه وبعد إطمئنانهم له أستقبلوه مع العامل ورفقاهم بالزوامل والرقصات الشعبية والحشود الغفيرة وذبحوا الذباح وأمور عديدة أكدت نقاوة فطرة إبن مأرب العصية وكرمه وسخائه ونخوته..
لكن ياترى ماالذي غير الحال وجعلهم يقبلون اليوم بالإمارتي ويدنسوا أيديهم وجيبوبهم بالمال الخارجي ..!!
عجبي وإستنكاري على تلك الممارسات الإستعمارية الإستغلالية الإنتهازية التي تعبث بمأرب اليوم مثل النفط والغاز والأموال المنهوبة ،وتلك الأطنان من الآثار التي تباع في أسطنبول وهي لاتقدر بثمن ،كل ذلك أضف الى مايذهب للمشائخ من جمارك الوديعة وارقام قيمة النفط المنهوب !!
مأرب تُنهب خيراته من اهلها المخدوعين بشائعات طافية وسياسية يصدقونها ،
ما نأمله أن تكون عملية البنيان المرصوص وأحداثها الأسطورية قد جعلت أهل مأرب يستفيقوا من غفلتهم ويعودوا لسابق عهدهم مما كانوا عليه من الشموخ و الأنفة وعزة النفس وسداد الرأي والكبرياء والتمسك بالأرض والحضارة والحيمة والغيرة اليعربية الأصيلة ..
يا أهل مأرب أنتم اهل الوفاء والنقاء انتم الأسود العصية ..فأعرفوا عدوكم من صديقكم ولا تنجروا وراء مشائخكم من اعتادوا فتات الخليج وأتخموا أكراشهم بالمال المدنس أعرفوا كيف يكون الولاء الحقيقي للوطن يا النشامى الأقحاح .
Discussion about this post