عندما زار السيد “دومينيك دو فيلبان” الجزائر إثر خطابه الشهير في مجلس الأمن ضد الموقف الأمريكي الذي كان يحاول حشد القوى الدولية ضد العراق، أتذكر أنني قلت له في لقاء بقصر الشعب: معالي الوزير، لو تقدمت لانتخابات في الجزائر لفُزت بأكبر حجم من الأصوات.
وتورد الأخبار اليوم، وبعد نحو عشر سنوات، تعليق رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق على جرائم الكيان الصهيوني بقول لم يصدر عن كثير من القادة العرب في المنطقة، يؤكد : أن إسرائيل لا توجد في وضع الرد على ما اعتبره “إرهاب حماس”، بل هي في وضع الانتقام، وقتل أعلى نسبة من المدنيين، وترتكب جرائم الحرب بمحاصرة قطاع غزة.
ثم يقول فيلبان في حوار مع إذاعة “فرانس أنفو” “: (رغبة إسرائيل في ضم الضفة هو عدم القدرة على الاستفادة من دروس التاريخ، إنها الحرب الخامسة في قطاع غزة، وكل مرة هناك عنف أكبر وأخطار أكبر لإسرائيل…… حكومة نتنياهو فشلت يوم 7 أكتوبر في مواجهة هجمات حماس، إنها مسؤولية نتنياهو مباشرة، ثم فشلت هذه الحكومة لأنها شجعت على الاستيطان بما في ذلك الضفة الغربية، وهناك خطر انفجار الضفة الغربية…. كل الحكومات الإسرائيلية راهنت على القوة، لكن الإسرائيليين يجب أن يفهموا أن القوة والانتقام لن تفيد الإسرائيليين لضمان الأمن).
وعندما أقرأ هذا اليوم أشعر بحجم الضآلة الذي وصلت له قيادات في الوطن العربي، وأحاول أن أفهم لماذا وصل الأمر إلى ما وصل إليه من دناءة تجعل الإنسان يقول: إذا كان هؤلاء عربا فأنا أستقيل من هذه العروبة.
وكنت ذكّرت في الأسبوع الثالث من “طوفان الأقصى” بتحذير الدكتور جمال العبيدي وهو يقول: (تجتاح الغرب موجة هستيريا حربية الآن، ويصرخ “الغرب الجماعي” ومن ضمنه إسرائيل، بأنه يتعين من هنا فصاعدا استئصال حماس، لكن جميع الناس يدركون بأن المقصود والمأمول هو استئصال الشعب الفلسطيني والتخلص منه نهائيا، وهكذا فإن إسرائيل تطالب الآن بالحل النهائي، على غرار ما قام به النازيون بحق اليهود، أو هكذا يدّعون، وينسى كثيرون أن النازية هي بنت الغرب وتعود إلى الغرب، والصهيونية تستحضر لهجة النازية).
وقلت تعليقا على ذلك بأن : هذا هو ما يُفسّر الجنون الأمريكو صهيوني، والذي يشبه ما أصابهم في الأيام الأولى لحرب أكتوبر 1973، وبغض النظر عن أن عنصر المفاجأة هنا كان مُذلا ومهينا لهم أكثر من الهجومات نفسها، وأهمية هذه الحقيقة هي التذكير بأن هذا الجنون سيتزايد ليصبح حرب إبادة حقيقية تحرق الأخضر واليابس.
ثم قلت في حديث آخر: واضح الآن أن تكثيف الهجمات الصاروخية على مدينة هاشم هو الاستعداد للغزو الأرضي بعد تدمير كل إمكانيات مواجهته الفعالة، وهو ما يفرض المسارعة بالتحرك الفوري…باختصار شديد وبيان أوضح، يجب أن تتركز الأسبقية الآن على حماية الشعب الفلسطيني من تفجر الجنون الإسرائيلي الذي عرفناه في كفر قاسم ودير ياسين وقانا وعشرات المواقع الأخرى التي سُوّيت بالأرض.
ثم قلت بكل أدب مراعاة للتحفظات الأخلاقية التي تفرضها “رأي اليوم ” على كتابها: أسبقية الأسبقيات اليوم هي عزل الكيان الصهيوني التي يجب أن تبدأ بطرد سفرائه ونزع أعلامه من الأرض العربية وقطع كل الاتصالات معه، وهو أمر بالغ الأهمية، سيثبت لحلفائه، إذا تم بشكل جماعي، أن درس الأندلس حيّ في الذاكرة الجماعية للأمة، وأننا لن نبكي ثانية ملكا لم ندافع عنه كالرجال.
وليس مطلوبا إرسال فرق عسكرية لدعم المقاومة، وليس مطلوبا إرسال الطائرات لحماية سماء غزة، ولا البوارج لحماية شواطئها، وإنما هو مجرد طلب مؤدب جدير بالكرم العربي الحاتمي !! يصدر من عدّة عواصم عربية شامخة يقول لقادة الكيان: سفراؤكم غير مرغوب فيهم … الآن، حفظا على سلامتهم (هكذا) وهو مجرد إعلان يصدر من عواصم أخرى، وبأسلوب مؤدب أيضا ولكنه واضح لا لبس فيه، بأنه لا أمل في أن يرتفع العلم الأزرق في سمائنا.
لكن ما عشناه من قيادات عربية كان أقرب إلى “الدياثة” السياسية التي لم أجد لها تفسيرا، والتي تفرض أن نتوقف عندها بالتحليل لنعرف كيف نضع كل شيئ في مكانه.
من هذا المنطلق أعود إلى وضعية الساحة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تصاعدت الشعارات القومية على الساحة وعرف الوطن العربي الانتفاضات النضالية في المغرب العربي والتحركات السياسية والمواقف الثورية في المشرق العربي، وكان واضحا أن منطق التضامن العربي الشامل كان هو السمة الظاهرة للعصر.
وبرغم الصور المختلفة التي كان يأخذها النضال العربي في كل قطر عربي نظرا لتعدد صور الوجود الاستعماري فإن التضامن الشعبي مع كل انتفاضة كان ظاهرة وحدوية جديرة بالانتباه.
كان الشباب في مصر يتظاهر تنديدا بنفي السلطان محمد الخامس والعمال السوريون ينسفون أنابيب البترول تضامنا ضد العدوان الثلاثي وكان طلبة الكويت يغنون الأناشيد الوطنية للثورة الجزائرية.
بمنتهى التبسيط للأمور، كان الوطن العربي كله يغني : وطني حبيبي الوطن الأكبر.
لكن ما غاب عن بصائرنا آنذاك هو أن الاستعمار كان يمارس عملية اختراق واسعة المجال بالغة الذكاء خبيرة في”الماكياج” السياسي، وهو ما يُفسّر التناقضات التي عرفتها التوجهات الوطنية والانتماءات الدينية والاختلافات المذهبية، التي انضمت لها الحساسيات الشخصية بين العديد من القيادات السياسية.
وعكس الإعلام الكثير من تلك “البثور” السياسية، ووصل الأمر إلى حدّ التشكيك في كل الزعامات التي كانت مصدر فخر للوطن العربي وللعالم الإسلامي، بدءا بصلاح الدين الأيوبي ووصولا حتى إلى بعض نجوم الكرة، وتزامن ذلك مع بروز الرأسمالية الطفيلية وتمكنها من السيطرة على القرار السياسي في الكثير من المناطق التي عرفت تحولات اقتصادية، “ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب”.
لكن أهم ما حدث هو تصاعد النزعات الشوفينية تحت ستار شعارات وطنية إقليمية تعالت فيها أسوار الحدود الجغرافية لتصبح شيئا لا يختلف كثيرا عن سور برلين الشهير.
وكان وراء ذلك قيادات سياسية محلية لم يكن في رصيدها ما تفخر به من مواقف نضالية، كما كان الحال مع القيادات التي اختفت بانتهاء أجلها، ولم تكن الطفرة المادية وما نتج عنها من ارتفاع هائل في مستوى معيشة بعض المناطق مما يمكن أن تنسبه تلك القيادات لعبقريتها الخاصة، برغم البلاغيات الإعلامية مدفوع الأجر.
ولم تكن لدى القيادات الجديدة ما تقدمه لشعوبها إلا النفخ في نار الوطنية القطرية، وارتفعت شعارات التونسة والسعدنة والجزأرة والتمصير واللبننة. ..الخ الخ.
وكنت قلت صراحة بأن الكثيرين في الوطن العربي وصلوا إلى اليقين بأن ما كانت تقوم به قيادات عربية، طوال سنوات وسنوات، كان مجرد التجاوب الظاهري مع الشعارات الرنانة التي تنادي بها الشعوب، وخصوصا في دعم ثورة الجزائر والتضامن مع مصر ضد العدوان الثلاثي، وكانت القضية الفلسطينية هي القضية الأم التي تتضافر الشعارات لنصرتها.
وكنت قلتُ إن ذلك تطور إلى محاولة إسكات قيادات فلسطينية وغير فلسطينية بما يقترب من الرشوة، وهو ما كان من بعض نتائجه خلق الفتنة في أوساط المناضلين وتحريض بعضهم على بعض، وبهذا كان أولئك القياديون يلتقون عمليا مع القوى التي كانت تريد محو اسم فلسطين نهائيا من خارطة التاريخ، وبوجه خاص تلك القوى التي لم تعرف من التاريخ إلا هوامشه ونفاياته وسقطاته، أو تلك التي بنت وجودها على أساطير خرافية ذكرنا بها المفكر “روجي غارودي” في كتابه عن الصهيونية.
هنا يبرز عنصر لم ينتبه معظمنا له، وسكت عنه من لتنبهوا له حرصا على العفة، وخوفا من استثارة أشقاء يزعجهم أن تنال تعليقات ما من قياداتهم السياسية، وهو ما بدأت الساحة العربية تعيشه منذ المواقف القطرية التي قم بها الرئيس المصري أنور السادات.
لم يكن سرّا أن الوطن العربي فقد الكثير بغياب محمد الخامس وجمال عبد الناصر وفيصل بن عبد العزيز وهواري بو مدين وآخرين ربما يختلف البعض حول حجم وجودهم وتأثيره.
لكن ما فاتنا هو أن هناك قيادات جديدة كانت تعيش وضعية كراهية عميقة لأولئك الرجال، وقد رأيت ذلك بنفسي وأنا ألاحظ تعبيرات وجه أمير معين، كان نكرة في مجال الأداء النضالي الوطني، “ضبطته” يرمق قائدا وطنيا معروفا بنظرة فيها الكثير من الحقد، ثم يروح يقبله بنفاق “عبقري” خدع كثيرين.
وعبر سنوات وسنوات كانت التوجهات الجديدة، وبتزكية المشاعر الشوفينية، تحفر خنادق التفرقة بين شعوب الأمة وبين التوجهات التحررية التي كانت يوما أنشودة ترددها تلك الشعوب في إطار المشاعر العربية الشاملة، وهي توجهات ذكرتني بما يمكن أن يشعر به الرئيس الفرنسي فراتسوا هولاند وهو يتذكر الإنجازات التاريخية لمؤسس الجمهورية الخامسة “شارل دوغول” (ولا مجال هنا للتفاصيل)
بكل بسلطة، أصل إلي الاستنتاج بأن مواقف بعض القيادات الجديدة يثمكن أن تُفسّر بأنها انتقام حقيقي من الرجال الذين صنعوا مجد الأمة، ومن مرحلة عزّة قومية لم يكن لهم دور فيها، إلا ما ساهموا به من أموال كانت أساسا هدية من السماء، ولا فضل لهم في الوصول إليها واستثمارها.
ولأن الشعوب، خصوصا تلك التي لم يمنحها القدر فرصة بذل دمائها من اجل حريتها واستقلالها وارتفاع شأنها، أصبحت بحكم سنوات الضخ الإعلامي والوفرة المالية والازدهار المعيشي ترى في بعض قادتها الحاليين رمزا لسيادتها، كالعلم والنشيد الوطني، نفهم لماذا تجد بعض الشعوب نفسها اليوم مضطرة إلى الوقوف وراءهم والدفاع عنهم، مما أعطاهم إمكانية تبرير التخاذل والتراخي والتناقض مع صيحة “وا معتصماه”.
وأتذكر كلمات “أبو القاسم الشابي” :ليتني كنت حطابا فأهوي على الجذوع بفأسي.
وأنا أعرف أن ما قلته هنا لا يروي غليل مواطنين يتمزقون ألما وهم يتابعون عملية الانتقام الصهيوني من غزة، وأعرف عشرات لا يستطيعون النظر إلى شاشات التلفزة، خجلا من العجز الذي جعلهم لا يملكون إلا الدعاء، ومنهم من كاد يظن أن الله تخلّى عن الأمة وتركها فريسة لأعدائها وأعدائه.
Discussion about this post