الجمعة في زمن سيد المرسلين و أزمنة العباد الغافلين و المارقين
د. يحيى أبو زكريا
قال الله تعالى : ” ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) “
اتفق فقهاء الإسلام أن الخطبة شرط لصحة الصلاة يوم الجمعة , و كان الرسول الأعظم –ص- يحرص عليها و يستعد لها ويستوفي كل مقدماتها من غسل وتطهر و تعطر و خشوع , وقد ورد في الأثر أن الرسول –ص- قال : “ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلاّ وقاه الله تعالى فتنة القبر ” و قال أيضا : قال صلى الله عليه وسلم : “إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه “
و بين تلكم الجمع و جمعة اليوم فرق شاسع , فقد كانت جمعة رسول الله لترقيق القلوب و الحث على الخير , و تقوية العقيدة و الإيمان و تكريس مبدأ رصّ الصفوف و تلاقي القلوب و الإبتعاد عن الذنوب و السيئات و ضرورة الإهتمام بالتكافل الإجتماعي و إستحضار الآخرة …وفي هذا المضمار قال حبيب القلوب :
“من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد، ثم يركع إن بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفّارة لما بينهما” . ومن خطبه يوم الجمعة
يا أيها الناس إن لكم علماً فانتهوا إلى علمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري كيف الله بصانع فيه، فليتزود المرء لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الهرم، ومن الصحة قبل السقم، فإنكم خلقتم للآخرة، والدنيا خلقت لكم، والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار، وأستغفر الله لي ولكم
وقد وقع انحراف خطير عن مسار الجمعة كما أرادها رسول الله – ص- حيث كثر اللغط في أيام الجمعة وتحولت المنابر إلى متاريس لنشر الفتنة و الكراهية و الطائفية و الضغينة و البغضاء و شق الصفوف و نشر المذهبية و السباب و الفجور و التكفير و باتت العديد من المساجد منطلقاً للعنف و الهجوم على الآمنين و المدنيين ..و خطبة الجمعة في زمن سيد المرسلين غيرها في أزمنة العباد الغافلين , فما هي معالم خطبة الجمعة في الإسلام ؟ وكيف نعيد الإعتبار لها لتكون منبراً للوحدة والتلاقي و الأخوة و التناصح و التكامل ..
ما لم يفهمه المسلمون , و مالم يستوعب المسلمون معادلته , أن الفريضة الأولى و المركزية في الإسلام : هي التعلم و القراءة ….فقد كانت أول آية نزلت على رسول الإسلام , إقرأ بإسم ربك ….و لفظة إقرأ وردت بصيغة الأمر , و الأمر يدلّ على الوجوب عند علماء الفقه و الأصول , و صحيح أن المخاطب هو رسول الله , لكن عموم من ينتمي إلى هذا الدين و من أرسل إليهم النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم مشمول بالأمر الرباني الأول :
التعلم و القرآءة ….
لم يولِ دين من الأديان أهمية قصوى للعلم مثلما فعل الإسلام عندما جعل العلم فريضة مقدسة , و جعل مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء , و المقصود بالعلم في المنظور الشرعي و الإسلامي هو ذلك العلم الأخروي و الدنيوي على حد سواء إذ لا فكاك بين الدنيا و الآخرة في الثقافة الإسلامية , فمطلق العلم الذي يفضي إلى تكامل الفرد و المجموع و بناء الإنسان و الإنسانية , و إسعاد البشر هو الذي أقره الإسلام و أثاب عليه أجزل الثواب ..
قال حبيب القلوب الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم: «الناس رجلان، عالم أو متعلم، ولا خير فيمن سواهما .
ولقد حث القرآن الكريم في آياته على تتبع علوم الكون كله، علوية وسفلية، أرضية وسماوية، واستنباط خفاياه وأسراره. قال الله تعالى:
أوَلَم يَنظُروا في مَلَكوتِ السموات والأَرضِ ومَا خَلَق اللهُ مِن شَيء [يونس الآية: 101].
وقال:{ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربَّنا ما خلقْتَ هذا باطلاً سُبْحانك} [آل عمران الآية: 191].
وعندما عرف المسلمون مكانة العلم و العلماء الحقيقيين و الربانيين و المخترعين و العباقرة المبتكرين طويت وسادة إدارة المسرح الدولي و شيدوا حضارة راقية , و عندما ترك المسلمون التفكير و اعتنقوا التكفير , و عندما تركوا الحكمة و امتهنوا الجدل البيزنطي و السفسطائي هانوا و هانت مكانتهم , و تحديداً في الوضع الراهن للإسلام، عندما تحولت أمة إقرأ إلى أمة إذبح ..
و لا نهوض لخط طنجة – جاكرتا إلا بالعودة إلى خط العلم و التعلم و الثقافة و الإختراع و الإبتكار , و احترام العلماء الحقيقين والذين أزاحهم المدعون و المتفيقهون من المشهد العربي و الإسلامي ..
الدكتور يحيى أبو زكريا
Continue Reading
Discussion about this post